د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: الإنصات.. قمة الأدب
يقول العلامة ابن خلدون إن "قمة الأدب أن تنصت إلى شخص يحدثك في أمر أنت تعرفه جيدًا وهو يجهله". هذا الرجل لا يتحدث من فراغ، فقد قضى حياته في التجوال بين ثقافات متعددة، منها 24 سنة في تونس، و26 سنة متنقلًا بين أرجاء المغرب والأندلس، و24 سنة في مصر والشام والحجاز. وهو ما أثمر على ما يبدو في تكون فضيلة الإنصات لديه التي أعانته على تبصر حال الأمم المتقدمة آنذاك (الأندلس) والمتأخرة قليلًا عنها، فدون لنا رائعته (المقدمة) التي كانت نواة لعلم الاجتماع الحديث الذي نفهم من خلاله الشعوب.
معضلة المستمعين تنشأ عند التظاهر بالعلم والإلمام بجوانب القصة قبل أن يكمل المتحدث حديثه. مع أن المتكلم يكرر ما يَعْرِف، أما المنصت فيتعلم شيئًا جديدًا بحسن إنصاته. وأثمن ما يدركه المنصت أن محدثه لا يفقه شيئًا مما يثرثر به. وإذا لم يعترف المرء صراحة بأنه لا يعلم بواطن الأمور سيجد نفسه يزاحم المتحدثين في كل شاردة وواردة حتى يثبت أن لديه "إلمامًا" بالموضوع. هي محاولة لردم هوة الشعور بالنقص بمجريات الحوار. ولهذا يطمئن سقراط هؤلاء بقوله "الحكمة الحقيقية هي أن تعرف أنك لا تعرف شيئًا". ويردد فقهاء المسلمين: من قال لا أعلم فقد أفتى.
فأولى خطوات التعلم الاعتراف بجهلنا. والخطوة الثانية تأتي بالإنصات الصادق بكل جوارحنا بقصد الفهم والتعاطف. فليس كل من يرهف السمع يخرج بحصيلة معرفية كافية، والدليل أن مستمعين يفهم أحدهما القصة ولا يفهمها الآخر لأنه كان شارد الذهن.
فلسفة الإنصات تقوم على محاولة فهم ما يريد إيصاله المتكلم من معلومات وأفكار ومشاعر. وفي لحظة المقاطعة ينقطع حبل الأفكار وتتبعثر المشاعر، وكثرة المقاطعات تفسد مشاعر البوح فيضيق صاحبها ذرعًا بجليسه ليبحث عن أذن أخرى مرهفة.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب: الإنصات.. "الفضيلة الغائبة" عن مناهجنا
الدقائق الأولى في الحوار في غاية الأهمية، وهي ملك المتحدث لا يجدر بالمستمعين أن ينازعوه عليها. ولذلك من أبجديات الدبلوماسية أن يصغي السفير باهتمام إلى حديث رئيس الدولة المضيفة مهما كان عمق اطلاعه على الموضوع تجنبًا لأي إيحاء بالتعالي أو عدم الاحترام. وهذا يشمل كل إنسان حتى لو كان يعيد الفكرة مرات عديدة، التي قد تعود لأسباب متعلقة بإحساسه بأن المتلقي لا يتفاعل معه فيضطر إلى التكرار. ولذا يرتاح المتكلم حينما نُظهِر له إيماءات تنم عن تركيز واهتمام وفهم.
أحيانًا نضطر إلى عدم إظهار العلم بالشيء على أمل أن يؤكد المتحدث معلوماتنا أو يصححها. يا لها من طريقة ذكية في تعزيز الأدب وترسيخ المعلومة. فالبعض ما أن يدرك أن جليسه لديه علم بالموضوع يضطر إلى اختصاره فتفوتنا جوانب مهمة لم تتناهَ إلى أسماعنا.
الإنصات يزيد الحصيلة المعرفية وهو سبب لإدخال السرور على قلوب الناس. والإنصات نافذة نطل بها على عوالم الآخرين، وبحسنه ننال شرف المعرفة مرتين، تارة بالعلم وتارة بالأدب.