د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: انحيازات الأذن
ليس كل ما يتناهى إلى أسماعنا تُعامله بموضوعية، فحتى الأذن تنحاز. والانحيازات المعرفية التي تخدع آذاننا عديدة، منها انحياز التأكيد confirmation bias وهي أن ننصت فقط لما يؤكد آراءنا ونتجاهل ما يعارضها فنخسر حججًا دامغة يصقلنا الاستعداد للرد عليها، وهناك من يصدق الشائعات لأنها تتوافق مع معتقداته.
في غمرة احتدام النقاش "تنحاز الأذن إلى الحديث الأخير" recency bias فتتذكر آخر ما قيل وتنسى أو تتناسى ما ذكر في البداية. ولذلك هناك من يتأثر بأحدث خبر عند اتخاذ القرار وينسى سيل الأخبار والمعلومات المهمة قبله. منا كذلك من ينحاز إلى الجماعة Groupthink bias، فهو يوافق مجموعته حتى ولو كانت على خطأ، أو يفضل رأي الصديق على آرائه الشخصية، خوفًا من الرفض! البعض يعتقد أن اختلاف الرأي مع الآخر يقصيه تدريجيًّا عمن يحب. مع أن "الاختلاف لا يفسد للود قضية".
ربما أسوأ انحيازات الأذن ميلها نحو السلبية negativity bias فتركز على الحوادث السلبية وتتجاهل الإيجابية. تتذكر ما قيل من نقد وتتجاهل المديح ما يضيع ثقة المرء بنفسه. نقيضها انحياز الإفراط في التفاؤل optimism bias وهو الاعتقاد الدائم بأن الأمور تسير على ما يرام مهما كانت الظروف، ولذلك فهم يتجاهلون مثلًا التحذيرات الصحية بافتراض أنهم لن يصابوا بأذى. إفراط الإيجابية هو النظر إلى نصف خزان الوقود الممتلئ فلا نكترث بمخاطر نفاده حتى تتعطل السيارة.
وقد تصاب الأذن بالكسل مثل صاحبها فتستند إلى ما يتناهى إليها من معلومات من دون حاجة إلى البحث المعمق. انحياز التوافر availability heuristic يجعلها تعتمد على المعلومات السهلة بدلًا من البحث المعمق والتفكير النقدي. مثل أن تصدق بأن الطائرات أكثر خطورة من السيارات بسبب بشاعة حوادثها، غير أن الأذن لو كلفت نفسها عناء البحث ستجد أن حوادث الطريق تقضي على حياة أكثر من مليون شخص سنويًّا، في حين لا تتجاوز وفيات الطائرات حول العالم 450 ضحية. وذلك لشدة كفاءة أنظمة الملاحة وتوافر بدائل السلامة التي لا تتحلى بها المركبات.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: اللسان في أدب الجاحظ
المفارقة أن العاطفة كذلك تتحكم في أسماعنا؛ فتنحاز الأذن أحيانًا إلى الصوت الجميل؛ إذ يميل قلب البعض إلى حب فتاة من صوتها، وما إن يراها حتى تحدث الصدمة الكبرى! هناك من يسحره الصوت الرخيم الأشبه بمقدمي النشرات الإخبارية فيمنحه راحة وثقة بالمتكلم، خصوصًا إذا كان ممزوجًا بثقة بالنفس.
وتدخل الأذن في انحيازات عديدة، منها انحياز الألفة familiarity bias، عندما تفضل المعلومات التي سمعتها من قبل على الجديدة، أو تميل نحو تصديق "إشاعة مألوفة" وتشك في الغريبة.
وربما أكثر الأمور المتعبة في حواراتنا انحياز الذاتية egocentric bias وهو تفسير ما نسمعه بناء على تجاربنا الشخصية. هذا الشعور يجنح بنا نحو السطحية فتجربتنا عن ذلك المنتج أو الخدمة محدودة جدا. ولذلك من الحكمة سماع أكبر عدد ممكن من الآراء لتكوين قناعة أكثر موضوعية من تجربة فردية. لن نستوعب حقيقة ذلك الهرم (الرأي/أو الحقيقة) ما لم ننظر إليه من جميع الاتجاهات.
الأذن إحدى وسائل الإدراك البشري التي ينبغي الانتباه إلى انحيازاتها!