محمد نصار يكتب : أمراض العصر
في القرن التاسع عشر فتكت الأوبئة بنحو نصف سكان العالم. الكوليرا والجدري والحصبة والطاعون حتى الإنفلونزا كانت تنتقل بسرعة مخيفة بين القارات لتحصد أرواح الملايين. ساد اعتقاد بأن المياه الملوثة هي السبب، ما دفع الكثير من البشر للتوقف عن الاستحمام، بمن فيهم شخصيات مشهورة في التاريخ. تشير الروايات إلى أن أحد الملوك لم يستحم سوى ثلاث مرات في حياته بسبب الرُهاب من الماء!
الأوبئة التي أرعبت أسلافنا غدت اليوم شيئًا من الماضي، الوقاية منها أصبحت بمتناول الجميع، بفضل التطورات الطبية، لدينا لقاحات تحمينا، عدا عن الوعي الصحي والاهتمام بالنظافة وغسل اليدين بالماء والصابون كاستراتيجية فعالة أمام معظمها. ومع ذلك، فإن التقدم نفسه الذي دفعنا خطوات هائلة إلى الأمام ومكننا من التغلب على الأوبئة، جلب معه تحديات من نوع مختلف. ظهرت أمراض جديدة ليست بكتيرية ولا فيروسية، بل نفسية واجتماعية، يشار إليها بـ"أمراض العصر" وتشمل الاكتئاب، والقلق المزمن، والإجهاد النفسي، وتورم الأنا.. القائمة تطول لأمراض مستجدة تصيب الروح أكثر مما تصيب الجسد.
يرى كثيرون أن منصات التواصل الاجتماعي، تمثل المحرك الرئيس لتلك الأمراض الحديثة، فمع انفتاح العالم رقميًّا، تحول السعي وراء الكمال والنجاح المثالي إلى مطلب نفسي ضاغط على الجميع، نجد أنفسنا اليوم في سباق لا يتوقف لعرض إنجازاتنا وصورتنا المثالية على منصات السوشيال ميديا، نبذل أقصى ما نستطيع للوصول إلى صورة متقنة لأنفسنا، ونلهث للوصول إلى إشباع ما للمعنى وسط "ثقافة الترند" التي تتجدد كل ثانية، يطاردنا الإحساس بالخواء، وهكذا دون أن ندري، نتحول إلى ضحايا لما نسعى لتحقيقه من مثالية. نملك كل الأدوات التي تجعلنا في اتصال دائم بغيرنا، ولكننا نشعر بأننا وسط عزلة داخلية أكثر من أي وقت مضى. تغمرنا ملايين اللايكات في تفاعل رقمي يحاكي التواصل الواقعي الحقيقي لكنه لا يمكنه أن يعوضنا عنه. وهكذا كلٌ -على طريقته- يتخبط وسط اللّجة، ولكن ماذا نفعل؟
اقرأ أيضًا: محمد نصار يكتب : اللعبنة
في الواقع، لكل عصر أوبئته، وما نعيشه اليوم ليس لأن في عصرنا عيبًا أو عطبًا لا يمكن التعامل معه، بل لأن الزمن يمضي والحياة تتغير والثوابت تتبدل. أفضل ما تفعله لحماية نفسك من أوبئة العصر هو معرفتها والوعي بها لتجنب السقوط فيها. الأفضل أن نبحث عن "ماء نظيف" نغتسل به لا أن نمتنع عن الاستحمام. هذا ما نملكه اليوم ولم يكن متاحًا لأسلافنا، سهولة الوصول إلى المعرفة، فلماذا لا نبادر إلى توظيفها لحماية أنفسنا؟!
في النهاية، فإن الدعوات التي نسمعها بين حين وآخر للتخلي عن أدوات العصر ومقاطعة السوشيال ميديا ليست خيارًا عمليًّا، هي ليست إلا نوستالجيا تدفعنا لمزيد من الشعور بالعزلة. فبدلًا من الهروب للخلف، الأفضل أن نتقدم بوعي كي نبني مقاربة جديدة لفهم ارتباطنا بها، وأن نسعى إلى وضع قوانين شخصية ومعايير ذاتية لكيفية التعامل معها، دون أن ننسى أن كل لحظة نقضيها متصلين بالشبكات الرقمية هي أيضًا فرصة للتعلم والنمو، متى ما أحسنا توجيهها.