د. محمد النغيمش يكتب: الإنصات.. "الفضيلة الغائبة" عن مناهجنا
حاول باحث تفحص منهاج دراسي عربي ليرى حجم تدريس فضيلة الإنصات فكانت الصدمة. فبالرغم من أننا نمضي جل أوقاتنا في الاستماع بنسبة 40%، و35% في التحدث، و16% في القراءة ونحو 9% في الكتابة، فإننا في الواقع لا ندرّس أبناءنا مهارات الإنصات على النحو المطلوب.
نصف الأدب في الإنصات لمحدثنا، ولا يمكن تخيل احترام لأحد يخلو من إرهاف السمع. حينما ننصت بانتقائية لما يهمنا، نمارس الأنانية، ونُشعِر الآخرين بأنهم غير مهمين، إلا حينما يتطرقون إلى ما يثير اهتمامنا. جل ما تعلمناه جاءنا عبر الأذن لأنها الطريقة الفطرية في تلقي المعلومة على مدار الساعة. فكيف أفهم الغل والحسد الذي يفور في صدور البعض من دون إرهاف السمع. ولذلك قال تعالى: "قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ". فكثير من كلمات الناس مثل رأس الجبل الجليدي تخفي تحتها ما هو أْعمق أو أخطر.
وجل معلوماتنا العامة التي نستقيها من تجارب الآخرين وأخطائهم ورؤاهم تأتي في ثنايا أحاديث شفهية. ولذلك كان الإنصات بمنزلة "النافذة التي يطل منها الإنسان على تجارب الآخرين وخبراتهم" بحسب مصادر الدراسة.
غير أن فضل "الإنصات" يتخطى سائر وسائل التواصل الأخرى (التحدث، والقراءة، والكتابة)، لأنها أول مهارة علمتنا كيف نتكلم ونقرأ ونكتب. ولذلك أتساءل كيف يأتي الوزن النسبي لمهارة الاستماع في منهاج اللغة العربية في الصف الخامس والسادس والسابع الأساسيين بمرتبة متأخرة في جميع المقارنات. ففي الخطوط العريضة للأهداف أتى الاستماع بنسبة 1.69 في المائة مقابل نحو 30 في المائة لكل من المهارات الثلاث (قراءة، كتابة، تحدث)!
وقد جاءت نتائج دراسة "تحليل المحتوى" من دليل المعلمين الذي تفحصه الباحث د.أكرم البشير من قسم المناهج والتدريس بالجامعة الهاشمية (الأردن) مع مساعديه، وراجعت نتائجها لجنة أكدت دقتها بنسبة ثبات عالية. حيث راجعت الدراسة جميع الأهداف التعليمية الواردة في أدلة المعلمين الخاصة باللغة العربية في المرحلة الثانوية المفصلية بحياة الفرد، وكان عدد الأهداف 1462.
ويعزو الباحث أسباب إهمال مهارة الإنصات إلى عدم الإلمام بطبيعتها، والاعتقاد الخاطئ بأنها تنمو تدريجيًّا مع الإنسان دونما حاجة إلى تدريب! فضلًا عن "النظرة السطحية" لها باعتبارها تابعة لدروس القراءة ولا تستحق أن يفرد لها باب خاص! وهناك ندرة في الأبحاث التربوية التي تتناول الإنصات بصفته مهارة لغوية مستقلة ودورها في اكتساب المهارات الأخرى كما قال الباحث والي (1998). شخصيًّا أتفق معه، فمن خلال بحثي الموسع في الأبحاث أؤيد ما ذهب إليه وبشدة حيث إن الأبحاث الأجنبية هائلة في هذا الجانب مقابل افتقار شديد في الأبحاث العربية.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: انحيازات الأذن
المفارقة أنه عندما حاول باحث آخر Swanson في عام 1986 تحليل 15 كتابًا تُستخدم في إعداد المعلمين في مهنتهم تبين أن نحو 2 في المائة من محتوياتها فقط أشارت إلى "الاستماع" باعتبارها مهارة يحتاج إليها المعلم للنجاح في مهنته!
الإنصات تاج الفضائل، فلا يمكن أن تتقبل مخلوقًا لا يعيرك آذانًا صاغية. ومهارة الإنصات هي عمود الخيمة في تطورنا الفكري واللغوي ولا بُد من أن نعيد لها قيمتها بتعزيزها في مناهجنا، وقبل ذلك في سلوك المعلم وولي الأمر ليكونوا قدوة يُحتذى بهم.