د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: اللسان في أدب الجاحظ
من أروع ما قرأت في النثر العربي ما خطته يمين الجاحظ من نفائس الكتب. في بداياتي، كلما أمسكت القلم لكتابة مقال أو فصل من كتاب تذكرت مقولته الخالدة: "أحسَنُ الكلام ما كان قليله يُغْنيك عن كثيره". حتى جاءت خاصية عد الكلمات المطبوعة في مايكروسوفت. فصارت مفردات مقالاتي لا تتجاوز 300 كلمة، لأن "خير الكلام ما قل ودل". غير أن اللسان يصعب أن يحسب لنا عدد الكلمات التي نتفوه بها، فماذا نصنع إذا داهم الملل جلساءنا؟
الجاحظ لديه معادلة بسيطة نراها في أعين المستمعين، حيث قال "لا تُطعِم طعامك من لا يشتهيه". أي "لا تُقبِل بحديثك على من لا يُقبِل عليك بوجهه". وواقع الحال يلفتنا إلى أن درجات اهتمام المستمع لحديثنا تتفاوت، فهي تارة مرتفعة، لرغبته في الاستزادة إما لجهله أو لحاجته إلى من يشاطره أحزانه وأفراحه وهمومه. وتارة تكون منخفضة وذلك حينما يستأثر المتكلم بالحديث أو يُكثر من المقاطعات غير المبررة. هنا يتبدد اهتمام المستمع فيتحول من "منصت" بكل جوارحه إلى مجرد "مستمع" يتظاهر بالاهتمام.
هذا على افتراض أن اللسان لم يطلق سهام اللوم والعتاب والنقد اللاذع. ولو أحسن المرء انتقاء كلماته لانقلبت المشاعر رأسًا على عقب. ولذلك قال الجاحظ: "اللسان زارع يحرث المودة، وحاصد يستأصل العداوة، ومادح يستحق الألفة، ومؤنس يذهب الوحشة". فإن كنا مستمتعين بما تجود به ألسنة الناس من أحاديث مريحة، انساب بنا الوقت من دون أن نشعر.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: علاقة الأذن بالنصوص
مشكلتنا مع اللسان ليست مرتبطة بقدراتنا الكلامية فحسب. إذ إن كثيرًا مما نبديه من قول ذي صلة بما يتناهى إلى أسماعنا. فمن يرهف السمع أكثر يتراكم لديه معين لا ينضب من الأفكار والرؤى والحلول. ولذلك ينقل لنا الجاحظ عبر كتابه الماتع "البيان والتبيين" مقولة عمرو بن عُبيد "من لم يُحسِن الاستماع لم يُحسِن القول". فشتان بين الرغبة في الحديث والمقدرة عليه.
المفارقة المؤلمة أن من الناس من لا يُقَدِّر المرء، ولا ما يجود به لسانه من درر. ولذلك يهمس جدنا الجاحظ في آذاننا فيقول: "لا تبقَ في المكان الذي لا تُعرَف فيه قيمتك". ويذكّر المتسرعين بالدخول في نقاشات عقيمة بقوله: "لا يعرف الخطأ من يجهل الصواب". وهذه العبارة قد تكشف أسباب الجدال العقيم. وهو الحكيم الذي قال لنا: "ما رأيت أحدًا يعيب الناس إلا لفضل ما به من العيوب".