د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: علاقة الأذن بالنصوص
يقدر العلماء أن ما يتناهى إلى أسماعنا من كلمات يوميا يناهز 20 ألف كلمة، ما يعني أن المرء يسمع نحو 7.3 مليون كلمة سنويًّا. هذه الكلمات التي تراوح بين نشرات إخبارية، وفيديوهات، ومحاضرات، وبودكاست، وحوارات جانبية مهمة، تحمل في طياتها معينًا لا ينضب من العبر والقصص والمعلومات والأفكار. وليست كل تجربة إيجابية تستحق الكتابة، بل تنافس بعض محطات الفشل والعثرات كثيرًا من التجارب الإيجابية لعمق الدروس النابعة من رحم المعاناة.
وما لا يجرؤ المرء على كتابته يحمل في ثناياه أمرًا جوهريًّا أو تجربة ثرية لا يبوح به المرء عادة، كاعتراف خطير، أو حقيقة موجعة أو سرٍّ من أسرار الصنعة. وهذا مما يعمق فكر الإنسان ويوسع أفق اطلاعه. فليست القراءة وحدها ما يقدح شرر الفكرة، فحتى إرهاف السمع يفتح لنا آفاقًا رحبة لا تبلغها الصفحات المكتوبة. هناك من أزهقت أرواحهم لأنهم أباحوا سرًّا دفينًا لأحد، وهناك من يكتب مسودة ذكرياته ويدفنها في أدراجه، ولا يسمح لأبنائه بنشرها إلا بعد مماته. ولذلك يقول الروائي البريطاني الرائع جورج أورويل "الكلمات التي نسمعها تشكل طريقة تفكيرنا وكتابتنا. الاستماع الجيد يمكن أن يكون مصدر إلهام لا ينضب". ولذلك فإن "الكاتب يحتاج إلى أن يكون مستمعًا جيدًا قبل أن يكون كاتبًا جيدًا. فالأصوات من حولنا تغذي خيالنا وتلهمنا" كما يقول وليم فكنر.
ويعود الفضل للأذن قبل النص في إلهامنا نحن الكتاب. فأول إدراكاتنا الحياتية تشكلت عبر الأذن. فالكلمات كما يقول أبوحيان التوحيدي "تُسمع قبل أن تُكتب، فمن لم يُحسن الاستماع لن يُحسن الكتابة". و"الأذن هي مدخل المعرفة" وتعزز قدرتنا على الكتابة كما يقول نجيب محفوظ. غير أن الكاتب في الواقع يحتاج إلى أذن مرهفة تحسن ترجمة ما تسمع إلى نصوص عميقة.
معضلتنا أننا نسمع ولا ننصت بعمق. فشتان بين الاثنين، فالأول سماع للأصوات من دون تدبر، في حين أن الإنصات إصغاء تام بكل جوارحنا، و"كأن على رؤوسنا الطير" من شدة التركيز. ولذلك الواعي لما ينصت يتأثر ويُؤثر بمن حوله حينما يكتب أو يتحدث (على افتراض أن لديه ملكة الكتابة). ولذلك يقول المفكر إدوارد سعيد: "الاستماع الجيد هو مفتاح الفهم العميق، والكتابة تُعبر عما نستمع إليه ونفهمه".
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: معضلة البدء بالحوارات
ويقول الكاتب مالكولم جلادويل الذي اشتهر بحس سرده للنصوص في كتبه الأكثر مبيعًا إن "كل محادثة هي مصدر لا ينضب للقصص".
عندما يغلق باب الطائرة، ويداهمني موعد تسليم مقالي، يُسقَط في يدي فلا أحد يمكن أن يحرك حديثه شجوني، ولا من صفحات ومواقف تقودني إلى فكرة سوى ما دونت سابقًا في مفكرتي الإلكترونية. وهذا دليل على أن الإنسان يتأثر بما يسمع وما يقرأ. لكن السمع يحمل تفاصيل مذهلة وجريئة لا يجاريه كثيرًا مما يكتب بتنميق وتهذيب على صدر صفحات الصحف والكتب والمنصات الإلكترونية.