عضلة التركيز
محمد النغيمش
لم يعد المرء في عصرنا قادرًا على تجميع شتات تركيزه. الهاتف والتلفاز والملهيات والمتطفلون تعاضدوا على تشتيت ما تبقى لنا من مقدرة على التركيز لسويعات، في مهام اليوم المتراكمة.
علماء من جامعة لندن شغلتهم مشكلة العصر، فأجروا بحثا غير تقليدي على قبيلة نائية في إفريقيا حافظ أهلها على البقاء في الريف، وقبيلة أخرى انتقل أفرادها للعيش في مناطق حضرية. أظهرت النتائج ما «فاق توقعات» الباحثين، حيث تبيّن أن الجماعات الحضرية (القبيلة المتمدنة) أظهرت صعوبة في تركيز الانتباه في اختبارات متنوعة أعدّت لهم، مقارنة بأفراد القبيلة التي حافظت على بقائها في الريف. ويعود أحد الأسباب إلى أن «الناس في المجتمعات الحضرية يتمتعون بمحفّزات تنبيه أكثر، حيث يتحلون بإفراط من حيث استخدام البصر والأصوات»، وهي أحد الأسباب التي تشتّت تركيزهم بحسب تقرير نشرته «بي بي سي».
هذه النتيجة واقعية ومنطقية. إذ نجد أن هجمة وسائل التواصل تحيط بِنَا من كل حدب وصوب، وصارت أحد أسباب تشتيت الانتباه، فلم نعد نتمكن من التركيز بهدوء لنصف ساعة.
فبعد أن كان التلفاز هو شاغلنا، انخفضت نسبة مشاهدته لدى أكثر من كان مولعاً به في العالم، وهم سكان الولايات المتحدة لمصلحة الإنترنت، والانشغال بالهاتف ومغرياته المتزايدة، حسب دراسة حديثة قرأتها. ولذا فنحن أحوج ما نكون إلى العودة إلى التركيز الشديد، لأنه يضاعف الإنتاجية ويشعرنا بلذة الفهم والتعلم والتفاعل والاكتشاف.
ومن الحلول التي تخفف من تداعيات تشتت تركيزنا، ما دعا إليه الرائع ديفيد آلن، في كتابه الجميل «Getting Things Done»، وهو التركيز الشديد لمدة نصف ساعة أو 15 دقيقة في عمل ما، من دون أي مقاطعة، بعدها استراحة لمدة دقيقتين، ثم تجديد التركيز حتى ننجز المهمة المطلوبة.
أما التركيز في الحوار، فيتطلب أن يحسن المتحدّث اختيار الموضوع المناسب للمستمعين، ولا يثقل على أسماعهم، ولا يستأثر بالكلام، كي لا ينفضّ الناس من حوله أو يفتر تركيزهم. والمستمع كذلك، بل الإنسان عموماً، يتوقع منه أن يأخذ قسطاً مريحاً من النوم وطعاماً معتدلاً، إذا كان حريصاً على المحافظة على تركيز عميق طوال ساعات اليوم، أو في اجتماع أو محاضرة مهمّة، بعيداً عن ملهيات التكنولوجيا. ولذا كانت ساعات الخلوة الخالية من الأجهزة، وسيلة من وسائل تجديد النشاط ورفع التركيز.
التركيز يقوى بالممارسة، لكن كيف ينهمك المرء في عمله، وهو يوزع نظراته على المارّة، في أروقة العمل. كيف يركّز الإنسان وينتج، وهو لا يدع شاردة ولا واردة إلا انشغل بها عن عظائم الأمور. ثم يعلق المشكلة على مِشجَب الآخرين.
التركيز الذهني مثل العضلة تقوى بالمران وتضمر بالإهمال.