د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: عندما يفقد المنصت الاهتمام بحديثنا
من مفارقات الحوارات ألا يشعر المتحدث بمرور الوقت، في حين قد ينتاب المستمع شعور بالملل بعد مدة زمنية قصيرة. المنصت كمن ينتظر دوره في الحوار، وشعور الانتظار ممل، خصوصًا إذا لم يكن لديك فرصة للتعبير عن رأيك. ولذلك كان من الحكمة ألا يبالغ المتحدث في الاسترسال في حديثه حتى يظهر له علامات جدية استمتاع المستمع بحديثه. غير أنه في كثير من الأحيان ومع حماسة المتحدث واستمتاعه قد لا ينتبه إلى تظاهر المستمعين بالاهتمام، إما لاعتبارات اجتماعية أو أخرى مرتبطة بمكانة المتحدث أو الفارق العمري.
بعض المرؤوسين يضطرون إلى "تمثيل" الإنصات للمسؤول المباشر لاعتبارات مهنية. ولهذا يحرص بعض المسؤولين على أن يدخر كلامه المهم إلى اللحظة المناسبة، ويتوقف عن الثرثرة عديمة الفائدة، حتى إذا ما تحدث اشرأبت له أعناق المنصتين. ذلك أن كثرة الثرثرة تفقد المتحدث بريقه.
ولذلك كان هناك قواعد بسيطة لتنظيم الحوارات، ورفع اهتمام المستمعين، والتأكد من أننا لا نزعجهم بثرثرتنا. الأولى: عدم اختيار موضوع بعيد عن دائرة اهتمامات الناس. لابد أن نتذكر أن مدة التركيز في عصرنا قلت بصورة كبيرة مقارنة بالعصور السابقة والسبب المشتتات من حولنا ووميض رسائل الهاتف الجوال وإشعاراته. ففي السابق، كنا نجد أنفسنا منجذبين بتلقائية للإنصات إلى ضيف أو شخصية مشهورة ما إن تدخل مجلسنا لأننا لم نكن نشاهده سوى في شاشة التلفاز وصفحات الجرائد. أما الآن فصرنا نعيش معهم يومياتهم، ونعرف أخبارهم لحظة حدوثها. صارت أعيننا وآذاننا لا تتوقف عن التقاط المعلومات، والشائعات، والتحليلات، التي من كثرتها لم نعد نتذكر مصدرها. تلقي في آذاننا وسائل التواصل والفيديوهات أطنانًا من المعلومات طوال العام، الأمر الذي تقلصت معه فضيلة الصبر على نقاش طويل ومتشعب. صرنا نريد سماع "زبدة الموضوع" أكثر من أي وقت مضى.
وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي أننا بوصفنا متحدثين لا ينبغي لنا الاستئثار بالحديث، من دون وقفات تمنح المستمعين فرصة الدخول والتعليق. فشعورنا بالمتعة في أثناء استرسالنا في الكلام قد لا يشاطرنا إياه المستمعون. وإذا ما كان المنصت مهتمًا في البدايات فقد يفقد لاحقًا ما تبقى من حماسته وتركيزه بسبب الإطالة والتشعب. وهذا يعني أن أذن السامع متذبذبة في درجات اهتمامها في الحديث الواحد. فلا ينبغي أن ننخدع بحماسة الثواني الأولى من قبل المستمع. والأمر يعود إلى أمور عديدة منها معرفة المستمع السابقة بالمعلومات، أو استطراد المتحدث في تفاصيل عديمة الأهمية بالنسبة للمتلقي.
إذن الحل لتجنب فقدان المستمع لاهتمامه بحديثنا، يكون بمنحه فرصة التعليق، أو الاستفسار، أو النقد وغيرها. فلابد من التوقف قليلاً من الوقت لنفسح المجال للمشاركة. والأهم من ذلك أن يشعر بأننا نتقبله كما هو لا أن نبدي الامتعاض فور تبنيه وجهة نظر مغايرة. ومن أكثر ما "يطفش" المستمعين من مواصلة الاهتمام أن يعاملهم المتحدثون كخصوم أو بندية.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: قيمة الإنصات في تراث العرب
ومن الحكمة أيضا كسب مودة المنصت عبر منحه حرية اختيار الموضوعات بدلاً من أن نفرضها عليه، وهذا من أفضل طرق إضفاء الأريحية على اللقاء. والأهم أن يرى بارقة التركيز والانهماك في أعيننا لكي يسترسل. وهي حيلة يمكن استخدامها مع الشخصيات العامة المشغولة بطبيعتها، فنترك لها متسعًا من الوقت للتعبير بالطريقة التي تعجبها، لنمضي أطول وقت ممكن معها. وذلك على افتراض أنها شخصية ذات تجربة عميقة أو علم ننتفع منه.
من الموضوعات ذات الاهتمام المشترك: الحديث عن المال، وهموم الإدارة التي يعملون فيها، أو التجارة والهوايات والاهتمامات المشتركة. ومن الموضوعات المنفرة في الحوار: الغيبة والنميمة، والسلبية، والتذمر، وإلقاء اللوم، والمبالغات، والتحيز، والافتقار إلى الموضوعية.
في كتابي "لا تقاطعني" الذي يأتي ضمن سلسلة إصداراتي بعنوان "الإنصات الفضيلة المنسية"، تطرقت إلى "مصفوفة الحوار الممتع"، وهي شكل رسمت فيه كيف يمكن أن يصل المتحدث والمنصت إلى حوار يستمتع به الطرفان بدلاً من الحوارات العقيمة أو النقاشات التي تهم طرفًا دون الآخر.
فقدان اهتمام المنصتين لما يتناهى إلى أسماعهم قد يعود إلى خلل في اختيارات المتحدث للموضوع أو الأسلوب أو التوقيت. وقد يكون مكمن المشكلة في مزاج المستمع أو استعداده النفسي.