د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: قيمة الإنصات في تراث العرب
من لطائف المعرفة، أن السمع أول حاسة تتشكل للإنسان وهو في بطن أمه. فقدم الله تعالى السمع على البصر في قوله "قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، قليلاً ما تشكرون". فالجنين يسمع قبل أن يبصر النور. وأصل المعرفة يعود إلى سيدنا آدم الذي علمه تعالى كل شيء مصداقًا لقوله: "وعلم آدم الأسماء كلها". إن للأذن شرف الأسبقية على سائر الحواس.
ولذلك كان إهمال مهارة الإنصات سببًا في عدم اكتساب مهارات اللغة الأخرى.
وخلصت دراسة لأستاذ اللغة العربية لغير الناطقين بها، في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، أ.د. جاسم علي جاسم، بعنوان "مهارة الاستماع ومعايير الجودة في التراث العربي" إلى أن: من معايير جودة الاستماع إمهال المتكلم حتى ينتهي من كلامه، والإقبال نحوه، والوعي لما يقوله، والإصغاء إلى كلامه.
والإصغاء بالمناسبة هو الإنصات لكنه فيه ميل بالجذع نحو المتحدث. ولذلك يقول العرب "صَغَتَ الناقة" أي مالت بجذعها نحو راكبها حتى يركب. ويتجلى ذلك في قول الشاعر:
تصغي إذا شدها بالكور راكبها
حتى إذا استوى في غرسها تثب
ويقال في اللغة: أصغى إليه رأسه وسمعه. وأصغيت إلى فلان أي ملت إليه بسمعي.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: أنماط إنصات الشعوب
وهناك فارق بين الإنصات والاستماع والسمع. فالاستماع قد يكون إنصاتًا لكن مع شيء من الانشغال عن المتحدث بهاتف أو بتلفاز ونحو ذلك. في حين أن الإنصات خضوع تام للجوارح لفهم مراد المتحدث. أما السمع فهو الحاسة ولا يقصد به المهارة skill.
ومن المفارقات في ثقافتنا والثقافات الأخرى أن الكلام المسموع قد يكون أخطر وأهم من المكتوب. فما لا يتجرأ أحد على كتابته يضطر إلى أن يهمس به في آذان من يثق بهم. فكم من تجربة ثرية أو صدمة عاطفية تنساب معانيها إلى مسامعنا عبر الرواية الشفهية.
وكثيرًا ما يوصف العرب بشغفهم بالكلام لكن الواقع أنه لو لم تكن هناك آذان صاغية لما وُجِدَ أبلغ الخطباء والشعراء والحكماء. وربما أبلغ مثال على أن من العرب من كانوا يصغون بكل جوارحهم، في سوق عكاظ، حيث يتجمهر الناس حول الشاعر ويرهفون السمع من دون مقاطعة. وهذا ما يبرر كيف لشخص أن يردد قصيدة حفظها عن ظهر قلب فور ما تناهت إلى أسماعه. وكذلك الحال مع الأحاديث النبوية والقرآن الكريم الذي جمع من صدور العرب، حيث استقر فيها بسبب قوة الإنصات في ثقافتهم. وقد ذكرت شيئًا من ذلك في سلسلة كتبي وهي بعنوان: "فضيلة الإنصات المنسية".
وصدق ابن خلدون حين قال عن فضل الإنصات بأن: "السمع أبو الملكات الإنسانية".