د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: حينما تنصت الشركات لعملائها
بعد مئة عام، وجدت شركة "كوكاكولا" نفسها مضطرة إلى تعديل وصفة مشروباتها الأصلية في عام 1985، لتطلق مشروبًا جديدًا باسم "نيو كوك" وذلك بعد أن تراجعت حصتها السوقية أمام غريمها "بيبسي". إذ أشارت اختبارات التذوق إلى تفضيل المستهلكين لبيبسي لكونه الأكثر حلاوة. غير أن هذا التغيير الجريء قد صدم الجمهور، إذ تلقت كوكاكولا آلاف الخطابات والاتصالات الهاتفية، فاضطرت إلى التراجع عن قرارها وذلك بالعودة إلى الوصفة الكلاسيكية بعد فترة وجيزة.
وهذا يجرنا إلى مسألة مهمة وهي ضرورة أن تبني القرارات المصيرية على دراسات علمية رصينة تعدها جهات خارجية مستقلة للتأكد من أن ما "نسمعه" يمثل مجتمع العينة بشكل صحيح. فرأي مجموعة من المارة، قد لا يعكس بالضرورة آراء الجمهور العريض.
يقول علم الإحصاء إن الباحث إذا وقف عند مدخل إحدى الأسواق التجارية ليستطلع آراء الناس حول منتج معين فإنه على الأرجح لن يصل إلى إجابات من يمثلون مجتمع العينة الحقيقي. فربما يكون معظم مرتادي هذا المدخل أقل اهتمامًا بالمنتج، أو قد يكون أحد الأسباب الاختيار العشوائي لموقع "سماع" آراء الناس من دون الاستناد على منهجية علمية. فاختيار عدد العينة وأماكن الوصول إليها مسألة في غاية الأهمية في علم الإحصاء، وذلك لضمان اختيار عينة فيها خصائص تمثيلية للفئة المستهدفة لنتمكن من تعميم النتائج.
ولذلك نجد أن تجربة كوكاكولا رغم بساطتها لكنها أدت إلى تراجع كبير في مبيعاتها، إذ اعتُبِر تصرفها أنه "أكبر خطأ تسويقي في التاريخ" بحسب موسوعة بريتانيكا، وقد اعترفت الشركة بذلك، إذ يعد ذلك المشروب جزءًا لا يتجزأ من الثقافة الأمريكية حتى يومنا هذا. وللأمريكيين احتفاء خاص بهذا المشروع، ويتذكرون جيدًا تلك اللافتة الكبيرة التي استقبلت بها الشركة رواد الفضاء في رحلة أبولو 11 حين قالت بالخط العريض: "مرحبًا بكم على الأرض.. موطن الكوكاكولا".
المفارقة أن عشاق نظرية المؤامرة اعتبروا ما حدث خطة مقصودة ومدروسة، غير أن الرئيس التنفيذي حينها (روبرتو غويزويتا) نفى ذلك قائلًا: "نحن لسنا أذكياء لهذه الدرجة ولا أغبياء لتلك الدرجة"!
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: كم يُكلفنا عدم الإنصات؟
قصة كوكاكولا تكررت مع سلسلة مطاعم ماكدونالدز، حينما لاحظت تزايد الطلب على وجبات الإفطار طوال اليوم، لكنها أجرت دراسة كشفت أن العديد من العملاء يفضلون تناول الإفطار في وقت متأخر. فقررت تقديم الإفطار لفترات أطول مما زاد من مبيعاتها.
وعندما دخلت شركة أيكيا السويدية لبيع الأثاث السوق اليابانية، أخفقت في تكييف منتجاتها مع المستهلك الياباني الذي كان يفضل البساطة وحسن استغلال المساحات الصغيرة. وبعد دراسة مستفيضة عادت الشركة بقوة عبر تصاميم مخصصة للسوق اليابانية، الأمر الذي حقق نجاحًا كبيرًا.
وربما كان أشهر تأثير عام 2007 عندما أدهش مؤسس أبل العالم بآيفون بتطبيقاته التي أحدثت نقلة نوعية في قطاع الهواتف. حيث جاء ذلك بناء على دراسة ليست لحاجات ورغبات الناس فحسب، بل استشرفت من خلالها المستقبل وآفاق التكنولوجيا لتحقق نجاحًا منقطع النظير.

تُعلّمنا تجربة كوكاكولا وغيرها من العلامات البارزة أن القرارات العظيمة تبدأ بالإنصات، لكن نجاحها مرهون بفهم عميق وتحليل دقيق. والأهم التأكد من دقة ما تقوله الفئة المستهدفة. كما أن الرجوع عن الخطأ ليس فضيلة فحسب بل شجاعة تستحق التقدير والاحترام.