د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: "صيام الاعتراض"
صام الزعيم الهندي "المهاتما غاندي" عن الطعام كأسلوب سلمي لتسجيل اعتراضه على احتلال بلاده من قبل البريطانيين. الصوم لغة هو "الإمساك المطلق عن شيء ما" سواء كان حركة أو مشيًا أو كلامًا أو طعامًا.
الصوم عن الطعام والشراب عبادة، وارتقاء بالنفس، غير أن فعل الصوم عما يزعجنا قد يكون أبلغ ردود الأفعال. ذلك أن الصوم عن الكلام، عقوبة لمستمع لا يحترم أبجديات الحوار. وصوم الجوارح عن المنكرات تهذيب للنفس حثت عليه ديانات عديدة. هو باب لتزكية الروح، فالمرء روح وجسد. وكف الأذى عن الآخرين صيام عن الإيذاء.
مريم العذراء مارست صيام الصمت، حيث جاء في محكم كتاب الله الكريم أنها نذرت للرحمن صومًا عن الكلام بعد ولادة عيسى عليه السلام، "فإما ترين من البشر أحدًا فقولي إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًّا". وهذا يعني أن في الإمساك عن الكلام موقفًا ورسالة. ولذلك كان الصمت عبادة في شرائع سابقة حتى "نسخها" دين الإسلام.
إذن، يتقي المرء شرورًا هو في غنى عنها إن أقل من كلامه. فأكثر أخطاء المرء في لسانه، كما يقال.
حينما يسمع أحدنا ما يكره، من تفاهات وإسفاف وسطحية، يكون أبلغ رد الامتناع عن الكلام. فلا يعاقب المرء على سكوته لكنه قد يدفع الثمن غاليًا بسبب كلمات لم يقدر عواقبها. ولذلك يقول الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:
واصْمُتْ، فإنّ كلامَ المَرءِ يُهلكهُ
وَإِنْ نطَقْتَ، فإفْصَاحٌ وإيجاز
وبالفعل، فقد طارت أعناق ونشبت حروب بسبب كلمة.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: الإنصات يبدأ من حب القصة
ويقال في الأمثال الشعبية إن السكوت علامة الرضا، لكنه قد يحمل في طياته مشاعر غضب واعتراض جامحة، يمنع حياءُ المرء من إبدائها.
وعندما يحرض الجشع شركة ما على رفع أسعارها بشكل مبالغ فيه يكون أمام الناس خيار الامتناع عن شراء منتجاتها. هو رد فعل قانوني وراقٍ بأن فئة لا يستهان بها تعترض على قراراتها.
الصوم عن الدخول في جدالات عقيمة راحة للبال وتعزيز لفضيلة أدب الحوار. كما أن هذا الإمساك عن الكلام يحير المتكلمين ويزيد فضولهم لمعرفة دوافع السكوت. كما أن الغموض الذي يصاحب "صوم الكلام" حالة صحية لدفع المتكلم نحو مراجعة نفسه، وانتقاء كلماته، وطرح موضوعات أخرى قد تجذب انتباه من لاذ بالصمت.
بعبارة أخرى، قد يؤثر الإنسان بقوة في سلوكيات الآخرين من دون أن ينبس ببنت شفة. مجرد الإمساك عن الكلام يثير علامات استفهام فضولية.
هناك من يمسك عن مبدأ الانتقام "كرد الصاع صاعين" ويؤثر المواجهة الصامتة لأنها أكثر تعبيرًا وأقل احتكاكًا. ففي ثناياها رسائل محيرة تفيد على الأرجح صاحبها.
روعة الاعتراض، أنه يأتي بأساليب شتى، كالرد الشفهي الحازم، أو الإمساك عن كلام أو سلوك أو إيماءة حتى تصل الرسالة بأسلوب بليغ. وأبلغ الاعتراض، صمت يفهمه الجميع.