د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: الإنصات يبدأ من حب القصة
إذا كانت "القصة أقصر مسافة بين شخصين" -كما قيل- فإنها تولد المشاعر الحميمية نفسها بين الراوي والمستمع. وقد أظهرت الدراسات التي تتبعت ماذا يحدث للأطفال حينما ينصتون إلى قصصنا، أنها من أحب الأصناف الأدبية إلى نفوسهم، لأنها تنسجم مع طبيعة النفس البشرية التي تنجذب بفطرتها إلى السرد القصصي.
المفارقة أنه حتى في علم الإقناع تتربع القصة على رأس وسائل التأثير، مع أنها تفتقر إلى الإحصائيات والأرقام، لكننا كبشر نتفاعل بشدة من الحكايات. ولا غرابة أن القرآن الكريم نفسه مليءٌ بـ"أحسن القصص".
يحب الطفل (مثلنا) القصة لدورها في إمتاعه، وتعليمه مهارات اللغة، وتغذيته بالمعلومات والحقائق والثقافة اللازمة، حسبما ذكرت الباحثة التربوية أفنان المسعري المختصة في الطفولة المبكرة في بحث عن دور "استراتيجية السرد القصصي في تنمية مهارات الاستماع لدى أطفال الروضة من وجهة نظر المعلمات". وقد نشر في المجلة الأكاديمية للأبحاث والنشر العلمي عام 2023.
وكشفت الدراسة أن استراتيجية السرد القصصي تؤثر بشكل كبير على تنمية إنصات الطفل. واستراتيجية السرد القصصي، كما يعرفها عرفة أبو المعاطي في دراسة سابقة، هي "سرد شفوي لعدة مواقف مترابطة ومتداخلة بلغة جذابة ومشوقة على مسامع عينة معينة لتحقيق هدف معين". وترتكز على التشويق والجاذبية. ولذلك لا يخلو منها منهج تعليمي.
ومن أهداف السرد القصصي أنه يسلي ويرفه عن النفس، ويُكَوّن شخصية الطفل، ويغرس فيه قيمًا، وينفس عن ضغوطه النفسية، وينمي قدرات التخيل التي لا غنى له عنها للوصول إلى الإبداع. وحينما يصغي الطفل جيدًا في مرحلة رياض الأطفال فهو يشيد اللبنات الأولى التي ترتكز عليها شخصيته لاحقًا.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: حينما تنصت الشركات لعملائها
ويصعب التأثير على الطفل من دون وجود فعال لعناصر القصة الأساسية، مثل "فكرتها الرئيسة" وهي الموضوع الذي تدور حوله الأحداث، بحيث تكون ملائمة لفهم السامع. وتأتي "الحبكة" وهي العقد الشائقة التي تصل إليها الأحداث بعد أن تتصاعد وتيرتها بشكل مثير. بعدها لا بد أن يكون في القصة "شخصيات" ذات أداء مقنع ومتناغم مع مسار الأحداث. كما أن قصة من دون تحديد "للمكان والزمان" يفقدها جاذبيتها ودوافع التخيل والتفاعل فما يحدث في المستقبل أو الماضي السحيق لا شك أنه يحظى بجاذبية مختلفة عما حدث يوم أمس. وتأتي "النهاية" بعد تصاعد شوق السامع لمعرفة حل المشكلة أو اللقطة الأخيرة سواء كانت سعيدة أو مؤلمة، في حين يمكن أن تترك بعض النهايات مفتوحة على غرار الأفلام التي تنتظر منتجين مستعدين لتقديم الجزء الثاني.
ولذلك يرى الباحثان أبومرزوق والوائلي في دراستهما المنشورة عام 2020، أن لكل قصة أسس اختيار، منها اتسامها بالواقعية والمنطقية، واحتواؤها على الإثارة والحركة، ومناسبتها لعمر الطفل ومستواه الفكري. كما أن من المهم لجذب استماع الطفل أن تكون الألفاظ واضحة، فضلًا عن انتماء القصة للقيم المجتمعية.
لحسن الحظ، تمتلك القصة قوة فريدة في غرس فضيلة الإنصات وتعزيز الخيال وبناء شخصية الطفل. كل ما هو مطلوب رواية محكمة وممتعة لتلامس شغاف قلب الطفل، ليصير الإنصات عادة تنمو معه وتمهد الطريق نحو مهارات تواصل فعّالة.