د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: أنماط إنصات الشعوب
جبل الإنسان على الإصغاء إلى من حوله. وكلما زاد جهل المرء وضحالة تجاربه زاد انبهاره بما يسمع. وقد مرت الأذن بتطورات عديدة في شتى أرجاء المعمورة. فمع ارتفاع التعليم، والوعي، وانتشار المعلومة، واختراق الطبقات الاجتماعية الدنيا لطبقات النبلاء والوجهاء بسلاح العلم والمعرفة صار عدد من يستحق أن نصغي إليه أكبر. الأمر الذي تطلب تدخلًا بشريًّا لتنظيم فوضى الكلام.
وهذا ما دفع الغربيين إلى الغوص في أهمية الإنصات باعتباره إحدى أهم مهارات التواصل الأربعة (الإنصات، والتحدث، والقراءة، والكتابة). فتبين أننا نقضي جل أوقاتنا في الإنصات 45٪، ثم التحدث 30٪، والقراءة 16٪، ثم الكتابة 9٪. ومما انتشر في أدبياتهم ما يسمى بالإنصات النشط active listening، الذي يُعد مثالًا بارزًا في ثقافاتهم لا سيما في البيئات التعليمية والمهنية. ويقصد به أن يُظهر الشخص اهتمامًا نشطًا، عبر استخدام الإيماءات، والأسئلة التوضيحية، كوسيلة للتفاعل.
وفي المقابل نلاحظ أنه في الثقافات الآسيوية، مثل اليابان وكوريا، يُعد "الإنصات التقليدي" ركيزة أساسية، حيث يُعد الإنصات بصمت واحترام دون مقاطعة علامة على التأدب. هذه الأساليب مستمدة من التأثيرات الكونفوشيوسية والبوذية التي تُقدّر الانضباط والاحترام.
وفي الدين الإسلامي الحنيف، امتدح الله تعالي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، عندما اتهمه المنافقون بأنه "يسمع من كلِّ مَن هبَّ ودبَّ" كما قال ابن باز. وذلك في قوله تعالى: "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (التوبة:61). ويقصد بقوله "قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُم" أي أن المصطفى هو أذن خير؛ يعرف الصادق من الكاذب، حتى لو مارس الإنصات للجميع. فهو يصغي بأذن واعية ليحتوي الجميع بفضيلة الإنصات. وهناك شواهد عديدة على أنه أفصح العرب لكنه أقلهم حديثًا وأكثرهم إنصاتًا.
وينتشر في الثقافات الإفريقية واللاتينية ما يسمى بـ"الإنصات التشاركي" وهو ما يعتبر أن تقاطع كلام الأشخاص بالتعليقات أو الأسئلة، إنما هو جزء من الحوار الطبيعي في ثقافتهم. فقد يشعر السامع الأجنبي إليهم بصخب، كما يحدث في طبيعة المجالس النسائية التشاركية إلا أنهم في الواقع يتحاورون بأريحية. فالإنجليزي مثلًا قلما يتحدث هكذا، ففي ثقافته إذا تكلم شخص ينبغي على الجميع أن ينتظره حتى ينهي كلامه.
في الثقافات الشمالية، كفنلندا والسويد، يسود ما يسمى بـ"الإنصات الصامت". إذ يميل بعض الناس هناك إلى الإنصات بتأمل، مع تقديم تعليقات عند الضرورة فقط، وهو ما يعكس تقديرهم للخصوصية الفردية، فلا يقتحمون عليك حوارك.
الإنصات لدى الإنجليز يتميز بالتحفظ في العبارات والنظرات والانتباه، مع تجنب المقاطعة في أثناء حديث الآخر. ويعود ذلك إلى تأثر أساليبهم بالقيم الفيكتورية التي تشدد على الإتيكيت واللياقة.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: سيكولوجية الحديث عن الذات
ويميل الصينيون في إنصاتهم نحو إظهار المستمعين احترامًا كبيرًا للمتحدث، وغالبًا ما يكون الإنصات صامتًا ومتأملًا. ويعود السبب لتأثرهم بتعاليم الكونفوشيوسية التي تعظم الاحترام والتواضع.
أما الأمة العربية فيتسم إنصاتها عمومًا، بأنه تفاعلي حيث يقاطع المستمع الحديث أحيانًا لإظهار الاهتمام أو التوافق. فتتداخل الأصوات وهي أقرب إلى الثقافة الجنوب أمريكية والإسبانية مثلًا. ولا يقصد العربي أن يقطع حبل أفكارك لكنه إذا تحمس يموج معك في النقاش فيظهر حماسته بطريقة تشاركية. باختصار عندما تسمع عربًا يتحدثون تتشابك أصواتهم وترتفع وهذه طريقتهم في التعبير. وقد يعود السبب جزئيًّا إلى جوهرية "الكلام" في الثقافة العربية. فالعربي بطبيعته لا يتحمل أن يسكت طويلًا فلا بد أن يعبر، ويمتدح، ويثني، ويقدر، ويعارض وهو أمر متأصل في شعب "يُحب الإعراب" عن نفسه. ولهذا سمينا "عربًا". وقد جاء القرآن الكريم بمعجزة من جنس ما يحسن القوم، وهو "الكلام" الذي لم يتمكن أحد حتى الآن من كتابة آية بليغة كآيات القرآن الكريم.
أما الأمريكان (أبناء عمومة الإنجليز) فلا يختلفون عنهم كثيرًا، غير أنهم قد يميلون أحيانًا إلى الإنصات التفاعلي والردود المباشرة جدًا على ما يُطرح، بتنميق أقل للمفردات وهو ما يخالف الإنجليز بطبيعتهم المتحفظة. كما أن من طبيعة الثقافة الأمريكية التعبير بمطلق الحرية عن الرأي الشخصي، ويتوقع المتحدث أن يحترم المستمع رأيه كما يفعل هو. ويعود ذلك إلى صميم الثقافة الأمريكية التي تعزز الفردية والتعبير الذاتي الصريح.
أما الفرنسيون فقد تأثروا كثيرًا بالتقاليد الفكرية والفلسفية التي مروا بها، فهم من قادوا أشهر ثورة في العصر الحديث. وتجد ذلك في ثنايا أحاديثهم التي تنحو باتجاه النقد والتحليل وشيء من الجدل في النقاش.
وهناك أيضًا ما يسمى بـ"الإنصات الهيكلي" المنتشر في البيئات الأكاديمية والمهنية الذي يعكس القيم العلمية والمهنية للوضوح والتنظيم، حيث يتم تنظيم الحوار وفق قواعد محددة. ولذلك ما إن يأتي الطالب من أسرة لا تلتزم بأدب الإنصات حتى يصدم بطبيعة الإصغاء المنظم في القاعات الدراسية وبيئات العمل الرسمية.
ما سبق يُظهر بجلاء أن العوامل التاريخية تؤثر على أنماط إنصات الشعوب. وهي تعبر عن ثقافتهم. ويبقى الأمر الأهم على الإطلاق أن يجد المتحدث آذانًا صاغية حينما يريد التعبير عن مكنوناته أو ينبهنا إلى قضية جوهرية قبل أن تضيع في صخب النقاش الاستعراضي.