وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: الموسيقى تصنع التاريخ.. والسياحة أيضًا
كثيرون من شعب الإنترنت يسافرون من أجل الطعام، وكثيرون يسافرون من أجل التقاط صور شاهدوا نموذجها "الفيروسي" الأول على إنستغرام.. كثيرون أيضًا يبحثون عن اختبارات روحانية أو رياضية أو عن التحرر النفسي أمام غروب للشمس في جزيرة بالي أو شروق في جبل كليمنجارو .. لكن السفر الذي يستحق فرصة حقيقية، هو ذلك الذي يبحث عن الموسيقى، لأن الموسيقى تصنع التاريخ، والجغرافيا، والقصص التي تشكل ذاكرة مشتركة للشعوب، وتصنع أيضًا سياحة لا مثيل لها.
وكما نكبت اقتصادات دول الخليج قبل أكثر من قرن مع اندثار زراعة اللؤلؤ، نكبت مدينة رائعة في جبال الألب النمساوية باندثار تجارة الملح الذي كان يستخرج من صخورها. "سالزبورغ" النمساوية العريقة واجهت مصيرها الأسود مع تلاشي تجارة الملح الأبيض، فبحثت في دفاترها عن بطل ينقذها، ولم تجد إلا شابًا وُلِد من أبنائها توفي في أواخر القرن الثامن عشر، واشتهر حينها بكتابة السمفونيات ومسرحيات الأوبرا. هذا الشاب اسمه "ولفغانغ أماديوس موزارت".. من منظورنا اليوم، لم يشهد التاريخ نبوغًا موسيقيًا بحجم نبوغه، ومن منظور سالزبورغ، هو القصة التي ستأتي بملايين الزوار إليها.
في كل مكان في سالزبورغ، اسم موزارت، في الشوارع، في المطاعم، على متاجر الهدايا، على غلافات كريات الشوكولاته، على المتاحف.. أما تماثيله ففي كل ساحة وفوق كل مبنى. موزارت في رواية أولى هو هدية سالزبورغ للعالم، وفي رواية ثانية هو هدية العالم لسالزبورغ.
لكن بركة الموسيقى ستصيب المدينة ذاتها مرتين! في الستينيات من القرن الماضي، قررت هوليوود أن تحيي قصة حب بين ضابط أرمل من القوميين النمساويين في سالزبورغ ومربية أبنائه السبعة خلال الحرب العالمية الثانية، فولد فيلم "صوت الموسيقى" بعد أن كان مسرحية غنائية فقط. هذا الفيلم وحده مسؤول عن جذب ثلث زوار سالزبورغ إليها.
في إحدى الجولات السياحية التي تقتفي أثر مواقع تصوير الفيلم، يحدث "صوت الموسيقى" وقعًا مزلزلًا من المشاعر ومن التعلم.. هناك حتمًا رحلة بين الأغاني والمناظر الطبيعية، لكن هناك أيضًا رحلة أخرى بين صراعات أوروبا، من صعود النازية إلى انهزامها، ومن مخاضات التاريخ حتى تشكل الدول كما نعرفها اليوم. في سالزبورغ تتشكل الموسيقى في الجغرافيا.. لكنها هي أيضًا تشكل التاريخ.
وللموسيقى باع أيضًا في صنع الأماكن.. مثال آخر
من فرنسا وألمانيا، ومن السر الحقيقي وراء مصالحتهما بعد الحرب العالمية الثانية..
بالطبع، التاريخ يشيد بديغول ومستشارَي ألمانيا شومان وإديناور، لكن لعلّ التاريخ يدين بالشكر الأكبر لمغنية لم تكن في ذروة شهرتها في بداية الستينيات، اسمها باربارا.
غنت باربارا بصوتها الرقيق لمدينة غوتينغن الألمانية
فقالت: إن أطفال غوتينغن لا يفهمون ما نقوله، لكنهم يبتسمون... فالأطفال هم أطفال، سواء كانوا في باريس، أو في غوتينغن!
حققت تلك الأغنية المصالحة الحقيقية بين الشعبين بعد حروب لا تنتهي.
وفي وقت لاحق، غنى الفرنسي جيلبير بيكو أشهر أغانيه عن لقائه في موسكو الشيوعية مع مرشدته السياحية ناتالي...
قال بيكو إنه تناول الشوكولاته الساخنة مع الفتاة الجميلة في مقهى بوشكين فاختلطت الساحة الحمراء مع جادة الشانزليزيه...
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، سافر الفرنسيون أفواجًا للبحث عن مقهى بوشكين في موسكو... لم يعثروا عليه، لأنه كان ببساطة من نسج خيال الشاعر. ومن شدة بحث الفرنسيين عن المقهى، شيّد الروس لهم في النهاية مقهى أطلقوا عليه اسم مقهى بوشكين!
في الحالة الأولى تحول المكان إلى أغنية، وفي الحالة الثانية تحولت الأغنية إلى مكان. وفي الحالتين، وحدها الموسيقى تصنع التحول، وتعطي للباحثين عن معنى جديد للسفر والأماكن، مساحات ليست كالمساحات.
اقرأ أيضًا: وسام كيروز يكتب لـ«الرجل»: أزمة منتصف العمر المهني.. والمكان في المستقبل
إلى قارة أخرى.. حيث يحكي التانغو في شوارع بوينس آيرس عن النضال من أجل الحرية.. سيخبرونك عن رجال يرقصون الرقصة معا استعدادًا لمواجهة الجلاد. سيخبرونك عن معزوفة "تانغو الحرية" التي وضعها "بياتزولا" لتصبح أشهر صرخة موسيقية في وجه الديكتاتورية. كل ذلك الإرث، كل تلك القصص، تحيا في المكان لعقود وقرون، بينما تعيش صيحات إنستغرام للحظات.
وبما أن الكلام عن الموسيقى التي تصنع التاريخ وترسم الأماكن والسياحة، فلا بد من التوقف عند حدث عربي عظيم هذه السنة، وهو مئوية منصور الرحباني، الذي يتهم تحببًا بابتداع الجسد المتخيل للوطن اللبناني مع شقيقه وتوأمه الموسيقي عاصي. على خطى منصور، ستبحث عن أماكن زرعتها الأغاني في الذاكرة الجماعية لشعب لعنته تعيش في الذاكرة .
ستجد "دراج بعلبك" لكنك لن تجد "ميس الريم".. ستجد "تراب عينطورة" لكنك لن تجد "كحلون".. فالأولى حقيقية، والثانية متخيلة.
ولعل السفر خلف الموسيقى يتفوق على باقي أنماط الرحلات، لأن مقاصده بعضها من حجارة وتلال، وبعضها من أفكار وخيال.