د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»:صيام الأذن..!
مما يحير المتحدث تفاوت اهتمامات المستمعين. فيجد القصة نفسها التي تشرئب لها أعناق المهتمين، يتلقاها آخرون بفتور عجيب. ليس ذلك فحسب، بل يلاحظ المرء أحيانًا انسحابًا كليًّا من الحوار، ولا نعرف أسبابه.
باختصار، هناك أذن تقرر الامتناع عن الإنصات وتمارس التمثيل، أو الاستماع المتقطع، وغير الجاد. وربما يتخلل ذلك ابتسامات صفراء مصطنعة.
فما هي أسباب صيام الأذن أو انسحابها من الحوار إلى الانشغال بأشياء أخرى؟
من أسباب صيام الأذن، فقدان الاهتمام. فكم من معلومات يعرفها المرء قبل أن يولد المتحدث، غير أنه يصر على تكرارها. كما أن بعضنا لا يجد أرضية مشتركة للحوار، فالمتحدّث مصر على تناول الموضوع برمته بطريقة عاطفية فيما يحاول المنصتون النظر إليه من جوانب عقلانية فتبوء محاولاتهم بالفشل.
وقد يرفض المتكلم قبول الرأي الآخر، وهذه هي نهاية أي نقاش. فما فائدة وجود آخرين في نقاش عقيم؟ هذه النقاشات الآحادية، أقرب إلى الوعظ أو النصائح.
وعندما تسود السطحية في النقاش، ويستأثر أحدهم بالحديث على حساب من يحاولون الإدلاء بدلوهم، هنا تلوذ الآذان بالفرار من حماس المشاركة.
باختصار تصوم الأذن كما يصوم الفم عن الكلام.
وعندما يتحول النقاش الهادئ إلى صراع الديكة، ينسحب من لديه ذرة حكمة. من الانسحابات التكتيكية ما يحفظ به المرء كرامته وطاقته! ولا ينصت الناس إلى كلام حاد عن جادة الأدب. فعودة الآذان الصاغية مرهونة بالرجوع إلى أدب الحوار.
صحيح أن "الأدب ليس إلا تحمُّل من لا أدبَ عنده" كما قال جلال الدين الرومي، لكن لأدب المستمعين طاقة سرعان ما تنفد. وهذا ما لا يدركه البعض، ما يجعلهم يستبدون في حواراتهم عبر فرض أساليبهم، وعنفهم اللفظي، دون أدنى اعتبار واحترام للجالسين.
خلاصة القول، عندما يغيب أدب الحوار تنسحب الأذن الواعية.
لا يقوم حوار من دون أذن ولسان يتحدث. وإذا لم يحترم المرء تلك الآذان سينفض الناس من حوله.
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»:مصيدة التظاهر بالإنصات
وعليه ليس من الحكمة أن يجبر المتحدث الآخرين على كلام أو معلومات لا يحبون سماعها.
ولذلك قيل "لَا تُطْعِمْ طَعَامَكَ مَنْ لَا يَشْتَهِيهِ".
ونقل الجاحظ عن بعض الحكماء قولهم "من لم ينشط لحديثك، فارفع عنه مؤونة الاستماع منك". والسؤال الذي يطرح نفسه، كيف أعرف ما إذا كانت الآذان مصغية؟ الإجابة تكمن في ملاحظة الإيماءات، وشهية المنصتين في التحدث وحماسهم في التعقيب، وانبساط أساريرهم. كما أن العين خير دليل.
ولذلك يقول المبرّد إن "الاستماع بالعين! فإن رأيت عين من تحدّثه ناظرة إليكَ فاعلم أنه يُحسن الاستماع". وقيل أيضًا "حدّثوا الناس ما أقبلوا عليكم بوجوههم، فإذا التفتوا فاعلموا أن لهم حاجات".
مشكلتنا أننا لا نتأمل تلك الحاجات فمنها المعلومات، أو الأسلوب الأمثل، أو الحد الأدنى من اللباقة والأدب.
فإذا غاب ذلك تصوم الأذن عن فضيلة الإنصات!