محمد النغيمش يكتب : مرونة التأقلم مع الأزمات
المرونة النفسية هي مقدرة الناس على التكيف مع مصاعب الحياة، وسائر المحن التي تعترضهم، كالصدمات النفسية والعائلية والعاطفية، والأزمات الصحية، كأزمة التأقلم مع فيروس "كورونا" المستجد الذي حجر على مليارات الناس في منازلهم. فبالأمس القريب، كان الناس لا يطيقون أعمالهم ولا يومياتهم ولا روتينهم خارج المنزل، فأصبحوا بقدرة قادر يتمنون العودة إلى ذلك الروتين، بدلاً من مكوثهم بين جدران المنزل.
والمفارقة أن كثيراً من الناس اكتشفوا أن لديهم الاستعداد النفسي للبقاء في منازلهم لأسابيع عدّة (مرغمين بسبب حظر التجوال). غير أن هذا التأقلم لم يكن ليُعرف لولا برهان التجربة. فكثير من المشاعر لا تعدو كونها حاجزاً نفسياً مؤقتاً، نحن نضخمه في أذهاننا. كقول أحدنا إنني إذا مكثت في منزلي لساعات، فأكاد اختنق! فكيف صار المنزل مكاناً مريحاً، وفيه يوميات جديدة ولذة لم تكن لتكتشف قبل حظر التجوال.
ولحسن الحظ، فإن المقدرة على تخطي صعاب فيروس "كورونا" وغيره من مصاعب الحياة، أمر مكتسب كما يقول العلماء. ذلك أن المرونة النفسية Psychological resilience، ليست قوة خارقة، بل هي موجودة في أعماق ذواتنا، ولا تطفو على السطح إلا عند المحن، أو وضع المرء على المحك. تماماً مثل جسم الإنسان الذي يكاد لا يستغنى عن تناول كوب من الماء يومياً، ثم سرعان ما نفاجأ بمقدرته المذهلة على العيش لبضعة أيام، من دون تناول الماء. وهذا سر بقاء الكثير على قيد الحياة، بعد أن تاهوا في قلب الصحراء قبل إنقاذهم.
وقد درست الباحثة إيمي فيرنر، في السبعينات، مجموعة من الأطفال في جزيرة كاواي الفقيرة. حيث انتقت أطفالاً نشأوا مع أولياء أمور أدمنوا شرب الكحوليات، ومرضى عقليين، وعاطلين عن العمل. فتبين أن ثلثي الأطفال الذين عاشوا في تلك البيئات، برزت لديهم سلوكات هدّامة في مرحلة المراهقة المتأخرة، كتعاطي المخدرات والبطالة، والحمل خارج إطار العلاقات الزوجية. وبالرغم من ذلك تبين أن نحو 30 في المئة من الأطفال لم تظهر عليهم سلوكات سلبية، وهذا ما دفع الباحثة إلى وصفهم بالمجموعة المرنة.
وكذلك الحال مع مجموعة من الأطفال نشأوا مع أمهات أصبن بانفصام الشخصية، وما تبعها من تداعيات النشأة غير المريحة، مقارنة بالأطفال الأصحاء، بحسب دراسة أجراها ماستن وزملاؤه بعنوان "المرونة والنمو" ونشرت عام 1990. باختصار لوحظ أن لدى تلك الفئات مرونة لاحقاً في التعامل مع مصاعب الحياة، مقارنة بالأطفال أو المراهقين الذين كانت حياتهم طبيعية أو خالية من التحديات.
في الواقع أن المرء حينما تعترضه تحديات حياتية، تكون أمامه ثلاثة خيارات: إما يستشيط غضبا، أو يفرغ مشاعره السلبية، فلا يصبح في مقدوره الاستجابة، أو أنه يحاول التغيير من الوضع المزعج. ولذا قيل إن النهج الثالث هو الذي يأخذ الفرد نحو الحياة التي يرجوها، لأنه صار يتحلى بالمرونة، لأن مشاعره المؤلمة تجاه حاله "البائسة"، تدفعه دفعاً نحو تغيير نمط حياته إلى الأفضل. فإن كان يعيش في بيئة عائلية ممن يحمل أفرادها تعليماً متدنياً، رأى بنفسه تداعيات انخفاض دخل أسرته، بسبب انخفاض مؤهلاتهم، فإنه يتجه مثلاً نحو أعلى مستويات التعلم أو يخوض غمار التجارة أو يحسن جودة علاقاته، في محاولة لتحسين وضعه. بعبارة أخرى فإن مشاعرنا السلبية الفطرية كالخوف، أو الألم، أو الغضب، أو الضيق، أو اليأس، أو الضجر، أو العجز، كلها أمور يمكن أن تدفعنا نحو الخيار الثالث وهو إحداث تغيير جذري في حياتنا.
والناظر إلى ما مر به العالم في عام 2020 من اكتساح مرض العصر فيروس كورونا المستجد لكل أنحاء المعمورة، وعودة الناس إلى حبس أنفسهم في المنازل، يرى كيف نجح الناس في البحث عن بدائل أفضل لهذا الواقع الجديد. فانتعشت الاجتماعات عن بُعد، حتى صار رؤساء دول ووزراء يجتمعون عبر الصوت والصورة. وفعّل التعليم الإلكتروني في بلدان نامية، وبحث الناس عن متعة جديدة داخل أسوار منازلهم، لم تكن لتكتشف قبل تلك المحنة.
والحياة سلسلة من التحديات والمحن، يتخطاها المرء بسلام، إذا ما أحسن اختيار ردود فعل حكيمة. فالغضب وتفريغ المشاعر من دون التركيز على حلول تفاقم مشكلة الإنسان ولا تأخذ بيده نحو "متعة" أو بالأحرى "قوة" التأقلم مع التحديات. وهذا باختصار هو الفارق بين من يخرج من أزماته أقوى من ذي قبل، وبين من يخرج وهو يندب حظه العاثر.