أحلام الطفولة تتحول إلى واقع
كان والدي في صباه يحمل روحًا حالمة. في لحظات التأمل التي كان يغرق فيها، تلمع عيناه ببريق رؤى بعيدة، وكأنه يرى مستقبله يتمثل أمامه. لم تكن تلك الأحلام مجرد أماني طفولية أو سحابة صيف عابرة، بل كانت أشبه بخطط مرسومة بعناية، لم يترك منها حلمًا إلا وسعى لتحقيقه بشغف وعزيمة، محوّلاً إياها إلى حقائق تضيء مسيرة حياته.
ينتمي والدي -المرحوم عبدالرحمن عبداللطيف العيسى- إلى الرعيل الأول في المملكة العربية السعودية، خرج من قرية صغيرة شرق المملكة، ثم شدّ الرحال إلى لبنان لإكمال تعليمه بعد أن أنهى دراسته في مدرسة الأميرية بالأحساء.
كانت نشأته حافلة بحب العلم والمعلمين، وما زلت أذكر تعلقه الشديد بمعلميه الذين أثروا فيه بعمق، وعلى رأسهم الشيخ عبدالله بن باز، عم مفتي المملكة الأسبق، والأستاذ عبدالمحسن المنقور، رحمهم الله جميعًا.
حين وصل إلى لبنان، كانت البلاد قد نالت استقلالها حديثًا من الاستعمار الفرنسي، وهناك التقى شغفه برغبة والديه في إكمال تعليمه، فالتحق بمدارس المقاصد الإسلامية التي كانت تحظى بدعم من المملكة العربية السعودية، ثم واصل دراسته في المرحلة الثانوية بالجامعة الأمريكية، قبل أن يتوجه إلى الولايات المتحدة لاستكمال تعليمه الجامعي.
أثرت تجاربه المتنوعة في تشكيل حياته، فجعلتها لوحة نابضة بالتفاصيل، فقد عاش في أماكن متعددة، متنقلاً بين سراة عبيدة والخرج والأحساء، فيما كانت والدته "جدتي" من الحوطة، وقد اختار الزواج بوالدتي وهي من الدرعية، ما أضفى عليه شعورًا عميقًا بالانتماء لكل هذه الأماكن التي لم ينقطع عن زيارتها. هذا الارتباط الوثيق بالمدن السعودية تجسّد في حرصه الدائم على دعم أبنائها، عبر تأسيس الأوقاف التعليمية التي أسهمت في نهضة مجتمعاتها وتطويرها.
خلال دراسته في الولايات المتحدة، خاض والدي تجارب متعددة تركت أثرًا لا يُمحى على شخصيته؛ فقد عمل في مصنع فورد في ولاية أوهايو، وعاش في ظل سياسات الفصل العنصري في الخمسينيات، حيث كان يُجبر على ركوب الحافلات المخصصة للملونين. هذه التجارب الصعبة شكلت رؤيته للحياة وصقلت شخصيته وجعلته أكثر إدراكًا لتحدياتها.
بعد عودته من الولايات المتحدة، عمل والدي في وزارة المالية خلال ستينيات القرن الماضي، ثم انتقل إلى القطاع الخاص، حيث شغل مناصب مختلفة على مدى عقود. لم يكن عمله مجرد واجب وظيفي، بل كان نافذة لتقديم صورة مشرقة عن المملكة، إذ كان نشيطًا في عضوية غرفة الرياض، ومسافرًا دائمًا للتواصل مع الجامعات الأمريكية لتعريفها ببلاده في الثمانينيات.
كان والدي يمتلك قدرة نادرة على التواصل مع الناس، وضع على طاولته خريطة مكتوبة بخط يده تضم أسماء الأشخاص الذين التقاهم، وتواريخ ميلادهم، وتفاصيلهم الشخصية والدراسية، كان يحرص أشد الحرص على بناء الجسور واستمرار التواصل مع كل الأشخاص الذين تقاطعت دروب حياته معهم.
لم يقتصر اهتمامه على أبنائه فقط، بل شمل زوجات أبنائه أيضًا، فقد كان يخصص لهن وقتًا بعيدًا عن الجميع، يستمع إليهن، ويجمع لهن ما يهمهن من أخبار وموضوعات، مؤكدًا أن سعادته الحقيقية كانت في إسعاد من حوله، دون أن تشغله المناصب أو المكاسب المادية.
سأحمل في جيبي منديلك الأبيض الذي تعطر برائحة الزيتون الذي كنت تحبه، ليظل رفيقًا لي؛ يذكرني بك ويعطر ذاكرتي بعبق أيامك.
رحمك الله يا والدي العزيز، وجعل مثواك الجنة.