كيف يتحاور الهنود الحمر؟
آفة الحوار المقاطعة من دون مبرر. والأسوأ أن تتكرر مقاطعات المتحدث لفظياً، أو حركياً كالانشغال بالهاتف، حينما يكون في أوج حماسته وطرحه. الهنود الحمر اكتشفوا طريقة رائدة وبسيطة في إدارة الحوار ومازالت صالحة لزماننا هذا.
تتمثل الفكرة باستخدام عصا رمزية في الحوارات والنقاشات الصاخبة، يمنحونها لشخص واحد تؤهله للتحدث من دون أن يسمح لأحد بمقاطعته. وحين يفرغ من حديثه يسلمها لآخر بدت على ملامحه أمارات الرغبة في الكلام، وهكذا حتى ينتظم الحوار ويتعلم المشاركون كيف يتفادون مشكلة تحدث أكثر من شخص في آن واحد.
وهذه العصا الغليظة، التي أشار إليها عالم الإدارة الراحل ستيفن كوفي، أشبّهها بميكروفون العصر الذي ما إن يصل إلى يد أحد الجمهور، فيبدأ في الكلام أو طرح تساؤله حتى ينتقل إلى المتحدث الآخر.
كم نحن بحاجة لعصا الهنود في وقت امتلأت فضائياتنا العربية بنماذج من المذيعين الذين يمارس نحو ربعهم (25٪) عادة المقاطعة المذمومة، بحسب دراسة علمية أجريتها مع رئيس قسم الاعلام في جامعة الكويت د.يوسف الفيلكاوي، ونشرتها في كتابي "لاتقاطعني". وهذه المقاطعة هي "المذمومة" التي تقطع على المتحدث فكرته من دون سبب وجيه، ولا نقصد هنا تلك المقاطعة "المحمودة" التي تأتي في اللحظة المناسبة، أي عند سكوت المتحدث أو بعد اكتمال فكرته.
ولاحظنا أن المذيعين الذين يفترض فيهم التدريب المسبق، كانوا يمارسون بكثرة ما يسمى بالإنجليزية بتداخل الأصوات overlapping الذي يربك المتحدث، ويرفع حدة النقاش، لأن الإنسان حينما يقاطعه شخص أكثر من مرة ينتابه ضيق، فيرفع صوته لا شعورياً، وأحياناً عمداً، أملاً بأن يسمعه أحد، والضحية المستمعون الذين يصابون بالصداع.
وهذا أحد الأسباب التي دفعتني لإعداد دراستين أكاديميتين عن آداب مقاطعة المتحدث نشرتهما في الكتاب، وهو من أوائل الكتب العربية التي ركزت على قضية الحوار وحسن مقاطعة المتحدث.
كلنا نشتكي من فوضى الحوار والمقاطعة، لكن السؤال: ماذا قدمنا من حلول عملية لتطوير حواراتنا ومناهجنا الدراسية؟ هذا التساؤل انتبه إليه الهنود الحمر، فجاؤوا بـ«عصا المتكلم» التي تعدّ من أفضل التمارين العملية للتغلب على فوضى الحوار.
ويمكن أن تستخدم في حالات الفصل في النزاعات بين المتخاصمين، أو عند البتّ في القرارات المصيرية أو أثناء الحلقات النقاشية الجماعية أو اجتماعات العمل العاصفة.
وتمرين "العصا" لا يقتصر على Indian Stick، فيمكن أن نستخدم بدلاً منها قلماً أو ملعقة أو كرة أو علبة صغيرة، كعلب المشروبات الغازية. وهي تمرين مهم للأطفال، لأنها تنمّي لديهم فضيلة احترام المتحدث، وانتظاره حتى يفرغ ما في جعبته من كلام، قبل الردّ عليه.
عصا الهنود لا تضبط الحوار، فحسب، بل تساعدنا على ضبط أنفسنا بكبت جماح الرغبة الجامحة في التعليق على كل شاردة وواردة، حيث ننسى أن كثرة الكلام تقلل الهيبة وتفقد المستمعين اهتمامهم بحديثنا، حتى وإن كانت مداخلة مهمة.