د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: سيكولوجية الحديث عن الذات
لاحظ من جالس الأديب توفيق الحكيم أنه كان في معظم الأحيان "يتحدث عن نفسه فقط، وعن ذكريات مر بها أو حوادث وقعت له". قال ذلك الروائي نجيب محفوظ في صفحات من مذكراته. وكان يقارن بين "الحكيم" رائد الرواية والكتابة المسرحية، وآخرين ممن يتجنبون الحديث عن أنفسهم ويركزون على صلب الموضوع أو الحكاية.
بعض الأشخاص يميلون نحو الهيمنة على المحادثات، ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب. منها الرغبة في السيطرة أو التحكم بالنقاش، أو ربما الاعتقاد بأن وجهات نظرهم تحمل في طياتها أهمية أكبر من أطروحات غيرهم. وقد يعود ذلك أيضًا إلى الحماس الشديد تجاه موضوع بعينه، كأمر يتألق به الفرد أو يحبه حبًّا جمًّا. والمفارقة أن ليس كل ما يحبه المرء يجيده! فهناك من "يُحِب" الكلام أو التحليل السياسي أو كرة القدم فلا يجيد أيًّا منها!
الإفراط في الحديث عن الذات قد يكون ناتجًا عن نقص في المهارات الاجتماعية التي تساعد على إدراك متى يجب ترك مساحة للآخرين للتحدث. وربما كان السبب في ذلك الاحتكار الشعور بعدم الأمان أو الحاجة إلى التعبير عن الذات. فهناك بالفعل من لا يحظى بآذان صاغية في بيته أو عمله، وربما ترعرع في أسرة تتسابق فيها حوارات أفرادها نحو الحديث عن الذات. وكأننا محور الكون. هنا تتضخم "الأنا" ونفقد بديهيات الحوار، وهي عدالة منح الجميع فرصًا متساوية للتعبير عن مكنوناتهم.
والنرجسية قد تقف وراء احتكار "الميكروفون". وتُعَرّف النرجسية بأنها "التركيز المفرط على الذات أو إعجاب المرء الشديد بنفسه، وبشكل خاص بالمظهر الخارجي"، كما يعرفها قاموس كولينز الإنجليزي. وهذا السبب احتمال محدود خصوصًا إذا عرفنا أن نسبة النرجسيين ضئيلة (6 في المائة)، حسب دراسة أمريكية.
أرى أن من أكثر أسباب انفراد المرء بالحديث عن ذاته، يعود إلى افتقاره إلى الاعتراف والتقدير من الآخرين، فيلجأ إلى المبالغة في الكلام عن نفسه كوسيلة لجذب الانتباه والإعجاب. والأمر نفسه يحدث مع بعض من فقدوا السلطة أو تقاعدوا فيخالجهم الحنين للحديث عن ماضيهم وصولاتهم وجولاتهم. هي معضلة حقيقية وشائكة.
اقرأ أيضًا:د. محمد النغيمش يكتب: العلم.. وحيرة تعلم مهارة الإنصات
البعض الآخر قد يكون لديه إفراط في الثقة بالنفس. وقد يعزز ذلك تنشئته أو اعتياده هذا الأسلوب حيث لم يجرؤ أحد على نقده لمكانته الاجتماعية.
مشكلة الحديث عن الذات أنها تولد لذة غير عادية لا يشعر بحلاوتها سوى المتحدث نفسه، أحيانًا. هنا يقع المستمع في ورطة حديث يصعب أن يدلي فيه بدلوه.
عندما يفرط أحدنا في الحديث عن ذاته قد "يَمَس" جرحًا لدى أحد المستمعين لم يندمل، كعلاقة لم يُكتب لها النجاح، أو زواج متسرع، أو خسارة مادية أو نقص ما في شخصيته، فينشب بينه وبين المتحدث نزاع للاستئثار بالحديث.
التحدث عن الذات شعور فطري كلنا بحاجة إليه، وقد يعود إلى أسباب نفسية واجتماعية. فإن كان في حدود المعقول تقبله الجميع، وإذا ما أفرط به المرء فإنه سيفقد "الحكمة" من الحوار.