د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: كيف يرى عالم الاجتماع حواراتنا؟
يقول عالم الاجتماع العراقي الكبير د.علي الوردي إنه حضر مجالس عديدة في البلدان المتقدمة وقارنها بمجالسنا العربية، فوجد أن الفروقات في الحوار مرتبطة "بالدرجة وليس بالنوع". فمما شاهد ذلك الذي يتحدث في كل موضوع على الطريقة الأفلاطونية أو الفارابية غير أنه لا يدرك بأننا نعيش في عصر لم يعد فيه مكان للطرح الموسوعي. ويصف ذلك المتحدث بأنه لا يكاد يجد أحدًا "يتكلم في أي موضوع حتى يبدأ عقله بالبحث عن نقطة يأخذ بها زمام الحديث، وهو لو أتيح له (المجال) لاحتكر المجلس له وحده غير أنه يجد في المجلس من ينافسه في ذلك، لا يترك له حرية الكلام كما يشتهي".
والنوع الثاني ذلك الذي "لا يكاد يسمع متكلمًا ينطق بكلمة، هي مغلوطة في نظره، حتى يجابهه بقوله إنها مغلوطة ويحاول ذكر وجه الصواب فيها حسب رأيه. والملاحظة أن هذا الشخص قد يكون أكثر خطأً من غيره، ولكنه يغضب إذا جابهه أحد بخطئه. وقد يتعمد توجيه سؤال وهو يعرف جوابه لكنه يقصد منه أن يجيبه أحد الحاضرين بجواب غير صريح فيسرع هو إلى ذكر الجواب الصحيح بغية إظهار تفوقه وسعة معرفته".
ولاحظ عالم الاجتماع د.علي الوردي في كتابه "نقاط على الحروف: مقالات لم تنشر"، نوعًا ثالثًا، كثير المقاطعة للمتكلمين في المجالس. وهو الذي لا يتحلى بالصبر اللازم حتى ينتهى المتكلم من حديثه. "وإذا قيل له: انتظر قليلاً إلى ما بعد انتهاء المتكلم من كلامه، فإنه يرفض الانصياع لهذه النصيحة، ويستمر في كلامه. وإذا لم يجد من يمنحه آذانًا صاغية التفت إلى الجالس بجواره ليشرع بالحديث معه. وبهذا يقع الجالس في موقف محرج: أيواصل حديثه مع محدثه الأول؟ أم يصغي إلى المتطفل الثاني؟".
وكشف لنا عن نوع رابع وهو ذلك المتطفل الذي ما أن يسمع سؤالاً موجهًا إلى أحد الجالسين حتى يسرع بالإجابة عنه، وربما في الوقت نفسه الذي بدأ المسؤول في الإجابة. "وبهذا يضيع الجواب على السائل لأنه يسمع اثنين أو ثلاثة يجيبون على السؤال نفسه".
اقرأ أيضًا: د. محمد النغيمش يكتب لـ«الرجل»: وحدة قياس "الضجيج"!
النوع الخامس، هو من يجادل الجالسين في موضوع ما، وما أن يجد نفسه يوشك أن يغلبه مجادله "فإنه يعمد إلى تحويل الجدل إلى موضوع شخصي ويأخذ بتوجيه الاتهام إلى المجادل ويصفه بما لا يليق، لكي يتخلص من مغبة المغلوبية في الجدل".
ويرى عالم الاجتماع الراحل د.علي الوردي (1913م-1995م) أن هذه الفئات موجودة في المجتمعات لكنها تزيد وتقل بحسب الثقافة السائدة فيها، و"مدى انتشار العادات الديموقراطية" فيه (انتهى كلامه).
أتفق معه في ذلك، غير أن هناك دورًا جوهريًّا للتنشئة في البيت، مرتبطة بكيف يتحدث الوالدان مع أفراد الأسرة، وكيف يتحدث المعلمون في الفصل مع تلاميذهم. فإذا ما كانت ثقافة أدب الحوار سائدة سيتغذى المرء عليها في تلك البيئات، ثم يأخذها معه إلى بيئة العمل. والأهم أنه سينقل ذلك معه إلى أسرته الجديدة (أبنائه) لينتشر تدريجيًّا أدب الحوار في الشارع والمجالس والشاشات الصغيرة والكبيرة. ثم نحظى بإعلام يحترم أدب الحوار أو على أقل تقدير نوجد جيلاً يمقت ويكافح "صراع الديكة" الذي يتصدر شاشاتنا.