د. محمد النغيمش يكتب: رحلة فهم القيادة
يظن بعضهم أن القيادة وصفة سريعة يمكن تناولها، بحيث تمكنه من أن يصبح قائداً فذاً. مشكلة فهم القيادة استعصت على الباحثين أنفسهم. ولذلك استمرت رحلة الاكتشاف لعقود طويلة، حيث تمخضت عن نظريات عدّة درستها بتعمق خلال إعدادي لأطروحة الدكتوراه عن موضوع القيادة في منطقة الشرق الأوسط. باختصار كان يُظَنّ سابقاً أن القائد يجب أن يولد بصفات عظيمة تؤهله لتولّي زمام الأمور. فبعد تتبّع سير الأعلام في المجتمع الغربي، اتضح للعلماء أن ذلك الفهم أقرب إلى الصحة. وعليه ترسّخت حقبة سميت بـ "الرجل العظيم".
وسبب التسمية يعود إلى أنها تركز على تحديد الصفات الفطرية التي يمتلكها القادة البارزون في المجالات السياسية، والعسكرية، مثل المهاتما غاندي، وإبراهام لينكولن وغيرهما. وما يهم هنا أنه خلال محاولات نظرية الرجل العظيم، التي لم تتمخّض عن صفات محددة يمكن حصرها في القائد واعتمادها عالمياً، برزت نظرية السمات (نفسها) بغية محاولة وضع يدها على قائمة من الصفات التي يمكن "قياسها". ونظرية السمات هي محاولات علماء عدّة لفهم القيادة، أو بالأحرى صفات من يطلق عليهم لقب "قياديين"، ولهذا يسمّيها بعضهم "نظرية الصفات" traits. وتعود تلك النظرية إلى الفكرة القائلة إن بعض الناس قد ولدوا بصفات معيّنة تجعل منهم قادة عظماء. ويعود ذلك إلى الاعتقاد الشائع بأنه يمكن التفريق بين القائد، ومن لا يتحلى بخصال قيادية عبر مجموعة من الصفات.
وبعد عقود من البحث والتجربة تناهى إلى أسماعنا صوت جديد في مشهد فهم القيادة. وذلك بسلوكات (وليس صفات) لوحظ أن قادة كانوا يتمتعون بها. فتمكن العلماء من معرفة "ماذا يفعل القائد؟ وكيف يتصرف؟". وما أنعش هذا التوجه دراسات شهيرة في الإدارة، قامت بها جامعتا "أوهايو ستيت" و"ميشيغان" في حقبتي الأربعينيات والخمسينيات. إذ حللت هذه الدراسات كيف يتصرف القادة في مجموعات عمل صغيرة. واستمر غيرهم في البحث في "سلوكات" القياديين، حتى استقرت جهودهم على ما اصطلح على تسميته بحقبة "نظرية السلوك" behavior.
وبعد محاولة الصفات والسلوكات، جاء دور بعد جديد في المعادلة وهو "الموقف" أي كيف يتصرف القياديون في مواقف محددة. فالموقف صار بعداً جديداً استمر إلى عصرنا الراهن. فقد تبيّن بالفعل أن هناك قادة يصبحون أكثر تأثيراً حينما يتبنّون مواقف محددة تناسب حدثاً بعينه أو موقفاً يستلزم حزماً.
ولذلك تجد بعض المسؤولين أكثر تأثيراً حينما يبنون مواقفهم أو ردود الفعل على حسب الموقف. فتجد أحدهم يتغاضى مثلاً عن إدارة لا يلتزم معظم موظفيها بمواقيت الحضور والانصراف، لكنه لا يفعل الأمر نفسه مع إدارة أخرى مرتبطة بالاحتكاك المباشر بالزبائن مثلاً. فيكون في غاية الشدة، وربما يكاد يفتقر إلى الرحمة بشأن المقصرين منهم. وذلك أمر مفهوم، فلا يعقل أن تكون متهاوناً مع موظفين في إدارة "كاونتر" تقديم الخدمة أو المصرف أو الجمارك أو المنافذ الحدودية وغيرها، مقارنة بإدارة عادية في المبنى الرئيسي، لا تؤخر مسألة الحضور والانصراف في الإنتاجية.
ومن ثمرات دراسة الموقف، أننا أصبحنا، وربما لأول مرة في تاريخ فهم القيادة، أمام مفهوم جديد، وهو أن القيادي المؤثّر، هو من يولي الموقف أهميته في قراراته وردود فعله. وأن مسألة انتظار الشعوب لشخص "يولد" بصفات أو سلوكات ألمعية لينقذهم لم تعد واقعية. فصحيح أنه الموهوب بصفات فطرية يؤثر، لكن لحسن الحظ أن القيادة صارت يمكن دراستها. ولهذا نجد تخصصات في كبريات الجامعات العالمية، وشخصياً أدرّس مادة القيادة في الجامعة وفي ورش عملي للشركات، لأنها أمر يمكن تعلّمه. كما أن تدريب المرء نفسه على كيفية التصرف في مواقف معيّنة، يمكن أن يعزز تأثيره في محيطه. هذا الفهم للقيادة وصل إلينا، بعد عقود من محاولات الباحثين فهم هذا العلم المترامي الأطراف.