محمد النغيمش يكتب:"أهمية" البيروقراطية!
عندما أطلق عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر نظرية البيروقراطية في مطلع القرن العشرين (١٩٠٠م) كان يحاول أن يقدم تصورا شاملا وغير مسبوق للشكل الأمثل للمنظمات الكبيرة، حيث كان سائدا آنذاك النظام الإقطاعي وشيء من الاستبدادية التي تغلغلت في المؤسسات.
ولذا فقد كان يرى أن المنظمة إذا ما كبرت كان لزاما عليها أن تستند على ستة ركائز مهمة وهي ضرورة "تقسيم العمل"، أي يجب أن تقسم كل وظيفة إلى مهام صغيرة معرفة بوضوح ومكتوبة. الركيزة الثانية "التراتبية" أو "هيكلة السلطة" بمعنى ضرورة وجود مناصب في هيكل تنظيمي يربطها سلسلة من الصلاحيات أو الأوامر. والركيزة الثالثة "الاختيار الرسمي" للعاملين بحيث لا يكون متروكا للمزاجية بل للمهارات الفنية.
ليس هذا فحسب بل إن ماكس قد سبق عصره بالتفكير حيث رأى ضرورة وجود "لوائح وقوانين رسمية" ومكتوبة وإجراءات واضحة للعمليات (الركيزة الرابعة). أما في الخامسة فكان يرى أن المديرين في المنظمات الكبرى عبارة عن مهنيين فقط وليسوا ملاكا لتلك الوحدات التي يرأسونها وأطلق على ذلك "اتجاه المسار الوظيفي". بمعنى أنه لابد أن يعرف كل مسؤول حدوده في هذا المسار. فقدم ربما للمرة الأولى في الأعراف الإدارية الحديثة مفهوم "الفصل بين المنصب الإداري وشاغله" فلا يجب أن يورث هذا المنصب لآخر أو يستأثر به الموظف مدى الحياة. وكانت آخر ركيزة "عدم الشخصنة" impersonality أي تجريد اللوائح والقواعد الرقابية من أي اعتماد على شخصيات أناس بعينهم فيجب أن تعض أمامها مصلحة العمل وليس أفرادا محددين.
كل ما سبق قد يبدو بديهيا في عصرنا لكنه لم يكن معمولا به على نطاق واسع، ولا يدرس في الجامعات فكان للاجتهادات الفردية دور ملحوظ. غير أن نظرية ماكس عن "البيروقراطية" قد جاءت بشيء جديد كلية. وهي نقلة نوعية إذ كان يعتبرها أفضل شكل للمنظمة الكبيرة. وهذا الشكل غير مطبق بحذافيره على أرض الواقع لكنه الصورة المنشودة للمنظمات الكبرى لكي تعمل بشكل جيد، أي الصورة أو المدينة الفاضلة. وقد استمر هذا الشكل البيروقراطي بصورة أو بأخرى حتى عصرنا الراهن.
وصحيح أن مفهوم البيروقراطية قد جاء بتغير جذري غير أن واقع الحال يشير إلى أن المنظمات العملاقة قد بالغت في تطبيق البيروقراطية وتشعبت حتى صار مما يثير العجب أن ينجح أحد في إتمام معاملة حكومية في زمن قياسي أو بضع ساعات من دون الدخول في دهاليز المماطلة والخدمات الرديئة وإسطوانة: "تعال بكره". وإن كان هناك تطوير سريع وملموس نحو إجراء بعض المعاملات عبر الإنترنت، إلا أننا في الواقع ما زلنا نعاني من آثار البيروقراطية المبالغة فيها، وهو ما يجعل المرء يضطر في مؤسسات عديدة للجوء إلى "واسطات" تنهي أعماله بسرعة قياسية ليأخذ فقط حقه.
بصورة عامة، نستطيع القول بأن نظرية البيروقراطية كانت نقلة نوعية في الممارسات الإدارية في التاريخ الحديث. ووضعت حلا للمزاجية والاستئثار بالمناصب، وحاولت تخطي النظام الإقطاعي والاستبدادي فصار أمامنا ولأول مرة نموذج بيروقراطي محمود وعقلاني نقود به المؤسسات الكبرى. إلا أن مبالغتنا في تقديس البيروقراطية في عصرنا من دون إعادة النظر دوريا في أقسامها المترهلة أفسد متعة الاستفادة من ركائزها العظيمة.