التاريخ يكرر نفسه منذ أكثر من خمسين عاماً.. نزاعات تبتلى بها المؤسسات العائلية
المؤسسات العائلية يمكنها أن تكون نعمة أو نقمة ولكنها في كلتا الحالتين تملك مسيرة فيها الكثير من العراقيل والنزاعات التي تختلف بشكل كبير عن نزاعات المؤسسات غير العائلية. صحيح أن الهدف في هكذا مؤسسات هو واحد أي ضمان استمرارية النجاح والمحافظة على إرث العائلة ولكن المعضلة الكبرى هي أنه لا يمكن فصل تعقيدات العلاقات العائلية عن تعقيدات العلاقات المهنية وهذا ما يؤدي إلى اندلاع نزاعات، لا يمكن حلها أحياناً.
مؤخراً، تناولت وسائل الإعلام خبر نزاع الشقيقين فردريك وديفيد باركلي اللذين يملكان فندق «الريتز» في لندن وصحيفة «التليغراف» وعددا كبيرا من المباني في بريطانيا وتورط باقي أفراد العائلة في حرب ضروس تخللها زرع أجهزة تنصت ودعاوى قضائية وإتهامات بتمرير صفقات مشبوهة. القصة هذه هي عينة بسيطة عن المشاكل والأساليب الملتوية التي قد يلجأ إليها أفراد العائلة الواحدة حين تندلع الحرب.
صحيح أن الخلافات والنزاعات جزء من أي مؤسسة عائلية، ولكن الفارق الوحيد بين تلك التي تستمر والأخرى التي تتفكك هو تمكن الأولى من احتواء المشاكل وعدم تمكن الثانية من القيام بذلك.
لاجتياز «انترفيو» عمل أونلاين.. اتبع هذه الإرشادات لنجاح المقابلة
التاريخ يعيد نفسه
الشركات العائلية هي العمود الفقري لاقتصادات الغالبية الساحقة من البلدان وهي هامة وأساسية لثروات الدول كما أن عدداً كبيراً من المؤسسات حول العالم نشأت في الأصل كشركات عائلية. وبما أن الشركات العائلية موجودة منذ آلاف السنوات، فإن تعلم الدروس من النزاعات السابقة قد يبدو بديهياً، لكنه ليس كذلك، فالخلافات ما تزال نفسها والصراعات تدور في الفلك ذاته.
ولعل ما قامت به مجلة «هارفرد بيزنس ريفيو» في شهر مارس/آذار يؤكد بأن التاريخ يعيد نفسه. فالمجلة قامت بإعادة نشر مقالة لهاري ليفنسون كانت قد نشرته عام ١٩٧١ من دون أي تعديل عليها والسبب هو أنه لم يتغير شيئاً منذ ٥٠ عاماً حتى الآن والنزاعات ما تزال نفسها.
المعضلة الأساسية التي تناولها ليفنسون في مقالته تتعلق بالجانب النفسي الذي يقف خلف هذه النزاعات والتي تجعل المتعاقبين على السلطة في المؤسسات العائلية يدورون في الفلك نفسه، حلقة مفرغة تبدأ مع المؤسس وتستمر إلى ما لا نهاية.
الأسباب النفسية الأساسية التي تجعل النزاعات في المؤسسات العائلية محتدمة هي التنافس ومزيج من مشاعر الذنب والرغبة في البروز. مؤسسو الشركات يشعرون بالتنافس عندما يشي اللاوعي الخاص بهم بأن أحدهم يحاول إزاحتهم عن عرشهم أو منافستهم على منصبهم. وهذه المشاعر تكون حادة جداً لأن المؤسسة هي امتداد للذات ولهذا السبب المنافسة تتحول إلى تهديد شخصي.
من المنطقي أيضاً في المؤسسات العائلة أن تشوش المشاعر والشعور بالمسؤولية تجاه أفراد العائلة الآخرين على القرارات الإدارية بشكل سلبي. ورغم كل التطور التكنولوجي والتقني الحاصل لكن الواقع الثابت هو أننا بشر وآلية عمل عقلنا وما يرتبط به من مشاعر لم تتغير. الشركات التي تتمكن من احتواء النزاعات غالباً ما تلجأ إلى تأسيس مجلس إدارة «مستوى ثانٍ» يملك القوة والنفوذ. هذه الإدارة تكون عبارة عن جهاز مراقبة يرصد نقص الخبرات في الشركة ويوظف الخبراء الذين يقومون بتدريب الموظفين وتثقيفهم وذلك لمنع القرارات التي تشوش عليها العاطفة من التأثير بشكل سلبي على الشركة. ولكن هذه المقاربة يمكنها أن تفشل بسهولة في حال لم يكن هناك شفافية وبعد نظر من قبل جميع الأطراف المعنية.
صحيح أن ليس جميع المؤسسات العائلية تعاني من الصراعات هذه ولكن الغالبية التي تعتمد مبدأ التعاقب على السلطة تعاني منها.
إتيكيت الاجتماعات عن بعد.. ما يجب فعله وما يجدر تجنبه خلال مكالمات الفيديو
المشكلة تبدأ مع المؤسس
مؤسس أي شركة عائلية عادة هو شخص عصامي شق طريقه بنفسه وعمل ليلاً نهاراً من أجل تحقيق النجاح. النجاح يبدأ مع المؤسس وكذلك الخلل الذي ينتقل من جيل لآخر. الدراسات أثبتت أن الغالبية الساحقة من الذين يقومون بتأسيس شركاتهم الخاصة يعانون من مشاكل ونزاعات معقدة وغير محلولة مع والدهم. هذه الخلافات كانت الدافع للتمرد ولإختيار مهنة تبعدهم كلياً عن سلطة الأب، وهذا يعني أيضاً أنهم كأشخاص لا يشعرون بالراحة حين يتم الإشرف عليهم وعلى عملهم أي أنه لا يمكنهم سوى أن يكونوا على رأس الهرم.
كل هذا يجعل المؤسسة العائلية بالنسبة للمؤسس هامة جداً وإمتداد فعلي لذاته وبما أن سبب التأسيس نابع من رغبة في الإستقلالية الكلية فإن أي شخص يبرز سيتم إعتباره كتهديد، سواء كان هذا الشخص فرد من العائلة أو من الموظفين.
السيناريو الذي عرضه هاري ليفنسون قبل خمسين عاماً، والذي ما زلنا نراه في يومنا هذا، هو صاحب المؤسسة العائلية الذي يغري الموظفين بوعود وتحفيزات وترقيات ولكنه لاحقاً يعيق عملهم من خلال منعهم من الحصول على الدعم الذي يحتاجون إليه، فممنوع عليهم حسم القرارات اليومية بأنفسهم بل عليهم العودة وبشكل دائم الى رأس الهرم. النتيجة هنا مجموعة من الموظفين الغاضبين بسبب ظروف العمل، ولكنهم في الوقت عينه يشعرون بالذنب لأن صاحب المؤسسة لطيف وكريم جداً ويمنحهم رواتب عالية ومحفزات عديدة.
المنافسة بين الأب والابن
المؤسس ولأنه يعتبر الشركة كامتداد لذاته يميل إلى أسلوب «أبوي» في الإدارة بحيث يرتكز في تعامله مع الموظفين على نظام الثواب والعقاب كي يضمن بأنه لن يكون هناك أي شخص ينافسه على منصبه. مبدأ يعتمده مع أولاده أيضاً الذين من المفترض أن يتعاقبوا على السلطة من بعده.
المنافسة بين الأب والابن، على امتداد أجيال عديدة من أبرز النزاعات في المؤسسات العائلية. فالوالد لا يريد أن يتقاعد رغم إعلانه المتكرر عن نيته القيام بذلك. يريد لأولاده أن يقوموا بإدارة الشركة ولكنه لا يتمكن من التخلي عن منصبه، وهنا تبدأ المرحلة الدقيقة التي تؤسس لسنوات قادمة من النزاعات. ما يحدث خلال الصراع هذا هو قيام الوالد بتنمية حس التنافس بين أولاده فكل واحد منهم يعمل جاهداً لإثبات نفسه وتفوقه على أشقائه وشقيقاته.
وفي المحصلة سيكون هناك الكثير من الوعود التي لن يتم الإيفاء بها ومشاعر الإحباط المتكررة والنفور من واقع أنهم ما زالوا في موقع «التابع» رغم امتلاكهم لكل المؤهلات.
الأولاد في المؤسسات العائلية، ورغم وصولهم لمرحلة النضوج وإثبات الذات والمهارات لكنهم يبقون يعتمدون على والدهم سواء لناحية الرواتب والترقيات وغيرها من الأمور، ففي نهاية المطاف هو ما زال يدير المؤسسة. الصورة هنا غير طبيعية وهذا ما يخلق مشاعر قلة الكفاءة والعدائية بين الطرفين. الابن مسجون في المساحة الرمادية لأجل غير مسمى ورأس الهرم، سواء كان الأب أو الشقيق الأكبر الذي يتولى إدارة الشركة، يعتبرونه متذمرا وناكرا للجميل، فهو يحصل على كل ما يريده من دون أن كل التعب المرتبط بإدارة المؤسسة.
النزاع هذا يؤدي الى نتيجتين، النتيجة الأولى هي بقاء أفراد العائلة الأصغر سناً تحت جناحي الذين يتولون المناصب الإدارية سواء الوالد أو الشقيق الأكبر، وبالتالي عليهم الانتظار لوقت طويل جداً قبل أن يتولوا مناصب إدارية. والنتيجة الثانية هي إبقاء الأصغر سناً تحت سيطرة العائلة ومنعهم من التقدم مهنياً خوفاً من قيامهم بالاستيلاء على مناصبهم.
التعاقب على السلطة في المؤسسات العائلية نادراً ما يكون سهلاً. والمقالة التي نشرت قبل ٥٠ عاماً تحدثت عن النقطة الأساسية التي تؤدي إلى ولادة كل النزاعات الأخرى. فالحلقة مفرغة هنا، تبدأ من المؤسس ثم تنتقل إلى الأبناء وهكذا تستمر إلى ما لا نهاية وتؤدي إلى ولادة نزاعات من نوع آخر.