عوامل كثيرة قد تتحكم.. لماذا تدفع أكثر مما يجب مقابل الاستحواذات؟
تعتبر عمليات الاستحواذ استراتيجية شائعة للشركات التي تسعى إلى النمو أو زيادة حصتها السوقية أو تحقيق مزايا تنافسية، ولكن في سباق التوسع والمنافسة، غالباً ما تجد الشركات نفسها تدفع مبالغ كبيرة مقابلة هذه العمليات من الاستحواذ.
وعلى الرغم من وجود عشرات السنين من الأدلة المثبتة بالدراسات والأرقام، والتي تظهر أن معظم عمليات الاستحواذ تفشل في خلق قيمة لمساهمي الشركات المستحوذة، يواصل عدد من المديرين التنفيذين السعي نحو صفقات أكبر.
وحسب الخبراء، فقد أثرت ظاهرة المبالغة بدفع مبالغ كبيرة مقابل الاستحواذ سلباً على عدد كبير من الشركات الكبرى حول العالم لعقود، ما أدى إلى إهدار مليارات الدولارات من قيمة المساهمين.
الواقع هذا لم يؤثر كثيراً على مسار الشركات التي ما تزال تسير على النهج نفسه، فجاذبية عمليات الاستحواذ مع التوقعات المتفائلة بالنمو، وضغوط المزايا التنافسية، مع ميل البشر بالثقة المفرطة بالنفس، غالباً ما تدفع بالمديرين التنفيذيين إلى تبرير دفع أسعار تتجاوز القيمة الأساسية للشركة المستهدفة.
والسؤال المطروح هنا: لماذا يسير الجميع خلفهم؟ ولماذا تدفع الشركات أكثر مما ينبغي مقابل الاستحواذات؟
فخ التقييم المبالغ!
من الأسباب الرئيسة التي تجعل الشركات تدفع أكثر مما ينبغي في عمليات الاستحواذ، التقييم المبالغ فيه للشركة المستهدفة، فعندما يبالغ السوق، لسبب أو لآخر، بتقييم شركة ما، سيجد المدير التنفيذي نفسه ملزم بإيجاد طريقة تبرر سعر السهم، أو سيكون عليه تحمل لوم انخفاض قيمته لاحقاً.
وتستجيب الشركات في معظم الأحيان لفخ التقييم المبالغ، من خلال إجراء عمليات استحواذ تترافق مع ضجة إعلامية، وهذا يسمح لهم بادعاء وجود تآزر وقيمة تبرر تقييمهم من الناحية النظرية على الأقل.
والتآزر هو فكرة تتمحور حول أن القيمة المجتمعة لشركتين أكبر من مجموع قيمتهما الفردية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال مجموعة متنوعة من الوسائل، كتوفير التكاليف مثلاً، وأهمية التآزر تكمن في المساعدة على تبرير السعر الذي يتم دفعه، وبما أنه لا يوجد نهج واحد لحسابه، فإن نسبة الوقوع بفخ المبالغة بالتقييم مرتفعة جداً.
ولعل قصة استحواذ "فالينت Valeant" تُعد مثالًا واضحًا على فخ التقييم المبالغ فيه، الذي يحدث عندما تضخ الشركات مبالغ كبيرة لتعزيز قيمتها السوقية، من خلال سلسلة من عمليات الاستحواذ، فقد قامت الشركة بتوسيع قيمتها السوقية من خلال شراء شركات أدوية أخرى، وقامت برفع الأسعار وتقليص الإنفاق على البحث والتطوير.
اقرأ أيضًا| لماذا قلصت الشركات إنفاقها على التسويق عبر مواقع التواصل؟
وبالفعل حققت إيرادات ضخمة، ورفعت الأرباح للتتناسب مع التقييم المرتفع لسهمها، ولكنها نجحت لفترة محدودة، وذلك لأن التقييم فعلياً مبني على فراغ، ومع تراكم الديون انخفض سعر السهم والقيمة السوقية للشركة بشكل حاد.
المبالغة بالقيمة قد تكون أيضاً نتيجة لارتفاع قيمة السهم حتى في فترة تراجع السعر، وهذا أمر شائع في عالم سوق الأسهم، والمستحوذ قد يصبح متفائلاً حول الفوائد المحتملة لهذا صفقة، ما يرسم صورة وردية "غير واقعية" للأداء المستقبلي للسهم.
خرافة التسعير الموحد
رغم أنه من المغري التفكير بالأسباب الكامنة خلف الأسعار المرتفعة بشكل مبسط جداً، وحصرها في خانة تورط المديرين في حرب المزايدات، والانجرار خلف حماستهم ورفع العروض بشكل كبير، فإن الدراسات أثبتت أن العلاقة بين الزيادة في السعر المعروض ونجاح الصفقة ليست خطية، فبعض عمليات الاستحواذ التي دفعت علاوات منخفضة (زيادة في السعر المعروض)، لم تحقق عائدات إيجابية على الاستثمار بعد عام، بينما أظهرت استحواذات أخرى بعلاوات مرتفعة عوائد إيجابية بعد الفترة نفسها.
وعليه فإن السؤال هنا لا يتمحور حول ما إذا كان السعر مرتفعاً جداً، بل بما إذا كان السعر يفوق قيمة الاستحواذ بالنسبة للشركة المستحوذة، ومثال على ذلك المنافسة بين "بيل أتلانتك" و"فودافون" للاستحواذ على "إير تاتش" عام 1999، حيث قدمت "بيل أتلانتك" عرضًا بقيمة 37 دولارًا للسهم (زيادة 7% عن السعر الأصلي)، فاستجاب السوق بشكل سلبي جداً، فيما قدمت "فوادفون" عرضاً بـ97 دولارًا (زيادة 34%)، ولكن الأسواق تفاعلت بشكل إيجابي وارتفعت أسهمها بنسبة 14%.
فلماذا تفاعلت الأسواق بإيجابية رغم المبالغة بالسعر؟
السبب بسيط للغاية، كانت "فودافون" تملك حصة سوقية في أوروبا، وتملك نفس التكنولوجيا الخاصة بـ"بيل أتلانتيك"، وعليه هي مكملة لها، ما أوجد تكاملاً مثالياً، وهذا المثال يدل أن هناك عوامل أخرى خلف نجاح الاستحواذات تتجاوز الأسعار والمزيدات.
الحوافز الضخمة غير المتوافقة
صفقات الاستحواذ تحتاج عادة، من الناحية النظرية، إلى موافقة المساهمين ومجلس الإدارة، ولكن من الناحية العملية يلعب المدير التنفيذي دوراً كبيراً في التأثير على مسارها.
والخلل يبدأ عندما لا تتوافق حوافز التنفيذين مع المساهمين، ففي معظم الأحيان يكسب هؤلاء مكافآت وأسهمًا من المكاسب قصيرة الأمد، أما المدير فيحصل على مكافآته عند إتمامه لصفقات ضخمة، والمكافآت هذه لا يتم ربطها بالعائد على رأس المال المستثمر، بل تأتي على شكل دفعات سنوية من زيادة الايرادات.
ولإيضاح الصورة، نذكركم بعملية استحواذ شركة "مينز وير هاوس" على "جوس إي بانك"، وهي صفقة بقيمة 1.8 مليار دولار تمت عام 2014، ولم تكن ناجحة على الإطلاق، ما أدى إلى انخفاض العائد على رأس المال المستثمر، وتراجع سهم الشركة بأكثر من 50%، وفي الوقت نفسه حصل الرئيس التنفيذي "دوج ابويرت" على مكافأة مالية ضخمة لإكماله عملية الاستحواذ، وبسبب النمو في الايرادات المصاحب، ما أدى إلى زيادة تعويضه بنسبة 167%!
الفخ النفسي.. "مبدأ بوليانا"
"مبدأ بوليانا" هو ميل الأشخاص إلى تذكر التفاصيل الإيجابية والتركيز عليها، وتجاهل السلبية، وفي عالم الأعمال يحدث هذا حين يركز المديرون والمساهمون على الاستحواذات الايجابية المربحة والنجاحات السابقة، مثل: استحواذ "جوجل" على "يوتيوب"، وتجاهل الكارثية كصفقة "أي أو أل" و"تايم ورانر"، وهذا التحيز النفسي يدفعهم للموافقة على صفقات باهظة الثمن، دون التفكير بالمخاطر بواقعية.
التحيز المعرفي هذا يؤدي إلى اعتقاد غير منطقي، بأن عملية الاستحواذ الخاصة بهم ستنجح، على الرغم من كل الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك!
اقرأ أيضًا: الأهداف الذكية SMART: خطوات عملية لتحديد أهداف قابلة للتحقيق
الأنا والضغوط التنافسية
تفشل العديد من الاستحواذات في تقديم القيمة المطلوبة، بسبب الانجرار خلف إثارة الصفقة، فقد يتأثر المديرون التنفيذيون بالامكانات المحتملة، أو يتعرضون لضغوطات من المنافسين، وتصبح المنافسة "شخصية"، وهو أمر شهدنا حدوثه مرات عديدة، حيث تطغى أسماء المديرين على عناوين الصحف عوضًا عن أسماء الشركات في حروب الاستحواذ.
ومع تجاهل المقاييس المالية، تبنى القرارات على العاطفة، ولاحقًا تحل الكارثة، ولعل أبرز مثال على ذلك صفقة "كويكر أوتس" و"سنابل"، إذ دفعت الأولى 1.7 مليار دولار للاستحواذ على الثانية، فيما قدر المحللون المبلغ أنه تم دفع مليار دولار أكثر مما ينبغي، وبعد 28 شهراً تم بيع "سنابل" بأقل من 20% من قيمة الاستحواذ.
فخ الأسباب الاستراتيجية
أحياناً يتم احتساب القيمة بعناية بالغة، ويتضح بأن الأرقام لا تدعم الصفقة، ومع ذلك يبرز التبرير الشهير "الأسباب الاستراتيجية، كسبب منطقي للمضي قدماً.
الخبراء لديهم نصيحة واحدة حين يتعلق الأمر بهذه الجزئية، في كل مرة يتم طرح "السبب الاستراتيجي" كمبرر لصفقة الاستحواذ، عليكم الانسحاب من الصفقة فوراً.
"بنك أيه بي إن أمرو ABN Amro"، الذي هو ثالث أكبر بنك في هولندا، يعمل وفق سياسة مفيدة على الشركات حول العالم الاستفادة منها، وهي أن كلمة "استراتيجي" في سياق أي جملة لها علاقة بصفقة استحواذ تعني أن الصفقة "باهظة الثمن"، وجملة "آخر صفقة من نوعها في هذه الفترة"، تعني أنها ليست كذلك، وأن عشرات الفرص المماثلة ستبرز تباعاً.
صحيح أن بعض الصفقات بالفعل لها قيمتها الاستراتيجية، ولكنها نادرة جداً، والمديرون غالباً ما يقعون في حب الصفقة ويقومون بملاحقتها حتى تصبح هوساً، وهذا الهوس يترجم في عالم الأعمال بجملة "إن لم تستحوذ على الهدف فسيحصل عليه منافس رئيس"، وفي عالم الأعمال إن لم تتناسب الأرقام، فعندها يصبح "حلالاً" على المنافس الشركة وكل مميزاتها.
اقرأ أيضًا| ارتفاع ملحوظ في أسهم شركات تقنيات الفضاء.. ما السر؟
الانضباط التنظيمي والتسعير
الشركات الناجحة في عمليات الاستحواذ تعرف متى تنحسب من صفقة تبدو نظرياً رائعة، حتى تتأكد من امتلاك الأرقام مجموعة من الضوابط التي تحول دون الانجرار خلف الحماسة الزائدة.
وبعض الشركات تضع سقفاً لا يسمح للمدير بتجاوزه، إلا بعد الحصول على موافقة صريحة من كل الجهات المعنية، فعلى سبيل المثال "هاتيشون شامبو" و"الايد سيجنال" تطلبان موافقات من أعلى المستويات قبل السماح بتجاوز السقف المحدد، وهذه المقاربة تقلل من نسبة انجرار المدير خلف حماسة المزايدة.
في المقابل مجموعة "إنتر ببليك جروب" تطلب عائد استثمار يصل إلى 12% خلال 5 إلى 7 سنوات، وتربط تعويضات المديرين بتحقيق هذه الأمور، وهذه المقاربة تمنع التلاعب بالأرقام لتحقيق مكاسب شخصية، لكونها مربوطة بتحقيق أهداف معينة للشركة.