محمد النغيمش يكتب: أفضل تجربة قيادية
مشكلة من يشار إليهم بالبنان من القياديين في العالم، أن مسيرتهم تنتهي بتقاعد أو استقالة، بصورة مفاجئة من دون استفادة حقيقية من خبراتهم من الصف الثاني والمحيطين بهم. هذه المعضلة انتبه إليها باحثان: الشهير في الإدارة جيمس كوزيز، وزميله بيري بوسنر.
ما فعله العالم باختصار، أنه انطلق إلى نحو 1300 مدير في الإدارتين الوسطى والعليا، في جهات متعددة في القطاع الخاص والعام، وطلب إليهم ببساطة أن يصفوا "أفضل تجربة شخصية" مروا بها كونهم قياديين في العمل. هذه الإجابات حُلّل محتواها بطريقة منهجية علمية رصينة، وهو ما تمخّض عنه نموذج شهير في القيادة.
ويمكن لأيّ شخص احتكّ بقياديين أو مسؤولين في العمل، أو في أثناء تجارته، أن يدرك أهمية تلك العناصر الخمسة التي عُدّت "تطبيقات أساسية" تمكّن القياديين من إنجاز ما يفوق التوقعات، وهي: النموذج القيمي، وإلهام الآخرين برؤية ثاقبة، وتحدّي سير العمل، ومنح مرؤوسيهم حرية التصرف، ومراعاة الجانب الوجداني.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا النموذج ليس مرتبطاً "بشخصية" المسؤول، بل "بالتطبيقات" على أرض الواقع practices. وفي مقدمة هذه التطبيقات التي تجعل القائد فعالاً، أن يحمل "نموذجاً" قيمياً؛ بمعنى أن تكون في ذهنه صورة واضحة لقيم شخصية يحملها وفلسفة خاصة به، ثم ينقلها إلى الآخرين من حوله. وإذا وعد لم يخلف، والأهم أن يصرّح بكل هذه القيم أو "نموذجه" للآخرين علّهم يسيرون على خطاه.
ويصعب تخيّل قائد مؤثر لا يحمل رؤية ملهمة ومثيرة للاهتمام، يمكن أن يغيّر بها سلوك من حوله، ويكون ذلك بمقدرته على تصوير رؤيته أو تجسيد خطواتها على أرض الواقع. فهم يرون القائد يأخذهم بالفعل نحو تلك الوجهة أو النتيجة المروجة. ويتضح ذلك جلياً من قراراته ومواقفه. وبطبيعة الحال فإن ذلك يتطلب أن يصغي القائد لآمال من حوله، وكيف يمكنه أن يحوّل شيئاً من ذلك إلى واقع. باختصار القياديون الذين يحملون رؤية ملهمة، هم من يستطيعون تخطّي الوضع الراهن، لتحقيق ما يصبو إليه الناس.
وهناك قضية في غاية الأهمية، كشفها الباحثون في القيادات المميزة، وهي مقدرتهم على "تحدّي سير العمل" أو الواقع challenge the process. وهي باختصار تعني من لديه الرغبة في تغيير الوضع الراهن، حتى لو كان يكتنف المستقبل أو الخطوة التالية شيء من المجهول، بحكم طبيعة التغيير. ولذا نجدهم يحرصون على الابتكار، والتطوير، والنموّ. وتبين أن هؤلاء القادة المثاليين، مثل الرواد في مجال معيّن، يتطلعون دوماً إلى خوض غمار تجارب جديدة، حتى وإن كانت مشوبة بشيء من المخاطر. فقد تبيّن أن المخاطر بالنسبة لهم خطوة إلى الأمام يتعلمون منها، ثمّ يواصلون المسير.
واتضح أيضاً أن مما يجعل القياديين يفوقون التوقعات في أدائهم، منحهم الآخرين "حرية التصرف"، فهم يميلون بطبيعة الحال نحو فرق العمل، وبناء الثقة، والترويج الدائم لروح التعاون في العمل. وهم منصتون جيدون أيضاً، لشتى الآراء، لأنهم يرون في تعدد الآراء فائدة. ولوحظ أنهم يعاملون الآخرين باحترام وكلّ ما من شأنه حفظ كرامتهم أيضاً. وبعبارة أخرى، فهم في الواقع يوجدون بيئة صحية يشعر فيها الناس بأنهم مقدرون وذوو قيمة مضافة إلى المجتمع.
وهناك أمر يغفل عنه بعضهم، وهو ضرورة مراعاة الجانب الوجداني. مثل مكافأة الإنجازات، وهو ما يتماشى مع الفطرة البشرية التي تتطلع عادة إلى التقدير ومزيد من التشجيع. وهم يحتفلون بإنجازات مرؤوسيهم بطريقة عفوية وصادقة، وهو ما يولد روحاً أو هوية مشتركة.
ولحسن الحظ فإن ما سبق ليس كلاماً إنشائياً، بل هو في الواقع يمكن قياسه في القياديين بشتّى مراكزهم الوظيفية. وذلك عبر استبانة LPI من 30 سؤالاً علمياً تضيء نتائجها على مدى توافر هذه التطبيقات العملية فينا. والأهم من ذلك أنها يمكن أن يقيسها الآخرون من حولنا، حيث إن آراءهم فينا أكثر موضوعية من حكمنا على أنفسنا.
وهذه النظرية الواقعية تخبر المسؤولين، ما الذي يتعين عليهم فعله، للتمتع بالكفاءات القيادية competencies. ولدى الباحثين كتاب شهير اسمه "تحدي القيادة" ذكرا فيه مزيداً من التفاصيل الشائقة.