البجعة السوداء
كان هناك اعتقاد شائع في أوروبا، وهو أن جميع البجع تمتاز بلونها الناصع البياض، حتى اكتشفت في استراليا ذات يوم تلك البجعة السوداء، فغيرت ذلك المفهوم السائد. نسيم نيكولاس طالب، ألّف كتاباً شائقاً تناول أحداث "البجعة السوداء" من حولنا، وهي تشبه النظرية التي تقوم على فكرة صعوبة التنبّؤ بوقوع الأحداث النادرة، كالحوادث السياسية والاقتصادية والتجارية والعلمية التي لم تخطر على بال أحد، أو بالأحرى لم يتوقع أحد حدوثها.
عايشتُ حوادث طائرات اختطاف عدّة في العالم، لكنني متأكد أن أحداً لم يتوقع أن ينطلق مجموعة من المجرمين، لخطف طائرات مدنية بركابها الأبرياء، لضرب برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، العاصمة التجارية لأقوى بلد في العالم. من كان يتوقع أن جيشاً، ناهيك بأفراد، يستطيعون فعل ذلك بهذه السهولة؟ والأعجب أن طائرة انطلقت نحو وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وأخرى ربما نحو البيت الأبيض، قبل أن تتحطم في إحدى ضواحي واشنطن أو فرجينيا. من كان يتوقع أن تحدث الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي أطاحت كبريات الشركات، وهزّت اقتصادات دول متقدمة عدّة، وحتى الدول الخليجية؟ من كان يتوقع أن يخترق الحاسوب ذو الشاشة السوداء (دوس) في الثمانينات كل شيء في عصرنا؟ بل صار بعضه يعمل الآن بتقنية الذكاء الصناعي الذي أذهلنا جميعاً، عبر ذلك الرجل الآلي الذي كان يتحلّى بحسّ ظرافة منقطع النظير، عندما تحلقنا حوله في مؤتمر في دبي. وصار للإنسان الآلي من القدرات الذكية ما يفوق كثيراً من البشر. من كان يتوقع أن مصباح علاء الدين، أصبح في جيب كل واحد منا، وهو تقنية النداء الصوتي لمحرك "غوغل" الذي يجلب لك كل معلومة تطلبها شفاهة وفي ثوانٍ معدودة؟
إذن كل هذه الحوادث هي بمنزلة البجعة السوداء المذهلة للبعض، غير أن مجرد وقوع أحداث كهذه، قد لا يشكل صدمة للبعض، في حين أنها قد تكون كذلك لفئة أخرى. وبصورة أبسط فإن الماشية أو الدواجن نفسها التي يتعهدها الإنسان بالرعاية والاهتمام، سوف تذهل حينما ترى سكين الجزار يقترب من نحرها، لكن الجزار نفسه لن يشكل له هذا الحدث أي مفاجأة تذكر لأنه يتوقع حدوثه.
أحداث البجعة السوداء تقوم على ثلاثة معايير، وهي أن الحدث نفسه يشكل مفاجأة كبيرة، وله تأثير هائل، ورغم عدم توقع الناس للحدث، فإنهم لاحقاً سرعان ما سيميلون إلى تصديق وقوع أحداث من هذا القبيل.
ولذا فإننا في بيئات الأعمال، وفي الحياة العامة سنواجه تحدياً كبيراً في إقناع البعض بقرب حدوث أمر مذهل. وهذا ما يتطلب تجميع معلومات مهمة ودقيقة، ربما تساعد على تبصير أصحاب القرار بقرب وقوع حدث مهم، يتطلب الاستعداد له قبل وقوع الفأس في الرأس، كما يقال. أو ربما دعم جهود حدث إيجابي كاكتشاف علمي غير مسبوق، يتطلب دعماً مؤسسياً أو حكومياً حتى يرى النور، مثلما أنارت مخترعات البشرية أرجاء المعمورة كافة، وفي مقدمتها مصباح توماس أديسون عام 1879.