كلينت إيستوود لـ "الرجل" : لماذا يتقاعدون في الستين ؟!
باتريشيا داناهير – نييورك :
صحيح أنني من المحاورين المخضرمين لكبار الفنانين، لكنني لست مولعة بهم. إذ إن المرافقين لهم والاحتياجات الخاصة المحيطة بالكثيرين منهم تسبب لي في أغلب الأحيان الإزعاج والتشتيت عن الأشخاص أنفسهم، من حيث تسليط الضوء على مواطن الضعف والغرور والتكبّر حيال النجوم الكبار.
ولكن عندما يأتيك كلينت إيستوود بطوله الفارع ماشياً بتؤدة إلى غرفة ما في فندق ريجنسي في نيويورك، للحديث إلى مجلة "الرجل"، جاذباً انتباه الجميع ممّن حوله إلى مكانته وحضوره، عليّ أن أعترف بأنني وجدت نفسي مولعة به تماماً، حتى أن لساني انعقد عن الكلام لحظات قليلة.
قد يبلغ إيستوود من العمر (84 عاما) الآن، ولكنه لا يزال نجماً بكل ما في الكلمة من معان، ومغازل وجميل المحيّا بالمعنى الدنيوي الكلاسيكي، ويبدو وكأنه صديق للجميع ممّن هم على دربه.
بدأ حديثه وهو يستقرّ في المقعد المواجه لي فقال "أحببت لو أنني أخرجت فيلماً في الشرق الأوسط في وقت ما".
يا لها من بداية! ويا له من رجل مهذب، لقد بدأ إيستوود حديثه بعكس الحوار تماماً ممّا يسهّل الأمور للغاية على محاوره. تلك هي البداية الأكيدة.
فنحن هنا في ظاهر الأمر للحديث عن فيلمه الجديد "جيرسي بويز"، الذي يدور حول حياة فرانكي فالي والفصول الأربعة والمقتبس من مسرحية ناجحة تحمل الاسم ذاته.
يصل إيستوود، الممثل المخضرم الدؤوب ومخرج العديد من الأعمال من سباغيتي ويسترنر لسيرجيو ليون إلى فيلم "ديرتي هاري" وحتى فيلم "مليون دولار بيبي" الحائز على جائزة الأوسكار، إلى أقصى حدود قدراته برباطة جأش يستمدها من عمره أو من الفناء.
يقول ايستوود "دائماً ما اتعلم شيئاً جديداً، وذلك السبب في أن كل فيلم هو تحدٍّ جديد بالنسبة لي. إنني أحب العمل كثيراً، وهو سبب المتعة لي".
وأضاف بابتسامة متكلفة "يسألني الكثير من الناس عن التقاعد، ويبدو أنني فكرت فيه كثيراً! ولقد أصابني الفضول لماذا توقف شخص مثل بيلي وايلدر عن الإخراج ببلوغه الستين، أو فكرته أنه لن يطلب أحد خدماته لأنه بلغ الستين. ثم نرى أناساً على شاكلة جون هيوستون الذي كان المخرج الفعلي لفيلم "ذا ديد"، وهو يجلس على كرسيّه المتحرك في أيرلندا، في وجود خزان للأكسجين معلق إلى جانبه. بعض الأشخاص يبلغون ذروة نجاحهم في أوقات مختلفة من حياتهم. وإن سرّ بقائي بالحيوية والنشاط هو: لا تأذن للرجل العجوز بالدخول. احتفظ بنشاطك واهتمامك بالحياة".
يمكن وصف إيستوود بالكاد بأنه عاش حياة بائسة، أو كما يراها بنفسه، قد بلغ ذروتها. فضلاً عن التمثيل والإخراج لما يربو على سبعة عقود، كما قضى فترة في منصب عمدة بلدة كارمل في بداية الثمانينات، وهي بلدة تقع إلى شمال كاليفورنيا والتي كانت موطنه خلال أغلب فترات شبابه، ويمتلك فيها فندقاً. كما أنه والد لخمس بنات وولدين من ثلاث علاقات مختلفة، فضلاً عن حفيدين. وهو غير متزوج حالياً، بعدما حصل على الطلاق من آخر زوجة له، أواخر العام الماضي.
يقول ايستوود عن نفسه "إن منظوري للحياة أن البعيد عنا يظل دائماً بعيداً. أنا لا أفكر كثيراً في آخرتي، حيث إنني أشعر أننا منحنا فرصة واحدة للعيش في هذا العالم. وسواء كنت تؤمن بالرب أو الطبيعة أو اياً كان معبودك، عليك الاستفادة من ذلك، وأن تفعل أفضل ما بوسعك، مهما كانت مهنتك في الحياة. فالحياة التي تحياها هي المهنة الوحيدة التي لديك، وهي اليد التي تتعامل بها وتلعب بها. فإذا ما ساورك القلق حيال نهايتها، فلن تتكمن من أن تعيش حاضرك فيها".
كان والد ايستوود عاملاً من عمال التراحيل، خلال فترة الكساد الأميركي الكبير، والذي كان يتنقل كثيراً بحثاً عن العمل. ولقد التحق بثماني مدارس ابتدائية مختلفة، ثم صار منعزلاً تماماً، نتيجة لفقدانه الاستقرار في حياته.
وفقاً لآرائه البوذية، على ما يبدو، عن سرعة الزوال والعيش في "الهنا" و"الآن"، تلطيفاً للمزاج مرة أخرى، سألته ما إذا كان لديه كلمة عن تناسخ الأرواح، وما نوع الحيوان الذي يودّ أن يعود إلى الحياة على صورته؟
فأجاب ضاحكاً "حسناً، إذا كان الأمر في نيويورك، فسأفضل أن أكون حشرة للفراش! فبتلك الطريقة على الأقل، لن تفوتك وجبة"، ثم أضاف "كانت هناك أغنية كليبسو عن رجل أراد أن يتحول إلى حشرة للفراش، وذلك لأنه أراد أن يعض أناساً بعينهم. أتذكر أنني وجدت ذلك الأمر مسلياً للغاية حينما كنت صغيراً".
ثم دندن إيستوود مع نفسه لثوان قليلة محاولاً تذكر تلك الأغنية ثم تحول إلى مبتسما وقال "أغنية ذا بيد باج؛ كانت من غناء ذا مايتي زيبرا؛ لقد كانت أغنية مجنونة بحق."
أخرج ايستوود قبل بضع سنوات عملا بعنوان "الآخرة" عن التسونامي في آسيا، وليس لأنه يفكر في الموت أو لأن أكثر الرجال شهرة على الشاشة يحمل هواجس نفسية شريرة إزاء الحياة ما بعد الموت. بل أخرج ذلك العمل لأن ستيفن سبيلبرغ قرأ نص السيناريو لبيتر مورغان وأعجب به وأعطاه لإيستوود. تلك كل القصة. في الأغلب.
يقول ايستوود "لم أحظ بتجربة الاقتراب من الموت، إذا كان هذا ما تسألين عنه. كنت اتبع ما يفكر فيه الناس فقط، من مختلف المعتقدات الدينية. معظم الناس يريدون الشعور بأن هناك شيئاً ما بعد الموت. وإنني مهتم بذلك أيضاً إلى درجة ما. رأيت يوري غيلير، الساحر الإسرائيلي، ذات مرة يثني المفاتيح بمجرد النظر إليها. أعتقد أن هناك نوعاً من الطاقة يفوق مجرد إمساك المفاتيح بالأيدي، وهو أمر لا تستطيعين فعله لأنها كانت سميكة للغاية".
واستطرد "لكن الأمر لا يبدو كالدين بالنسبة لي، حينما أفكر فيه طوال الوقت. ولكنّني منفتح. هناك الكثير من الأشياء التي لا نعرف عنها شيئاً في هذا العالم، ولن نعرف بها في حياتنا تلك".
بعد تألقه الرائع وإخراجه لذلك العدد الهائل من الأفلام خلال حياته المهنية الطويلة، أقام إيستوود علاقة وثيقة وقوية مع الممثل مات ديمون، والذي تعاون معه في فيلمين مؤخراً:"اينفيكتوس" و"هيرافتر". ولقد منح ديمون مجاملة طيبة تشير إلى أن ايستوود يعتقد أنهما من الطينة نفسها.
حيث قال "ما يعجبني في مات أنه غير متأثر بالنزعة المسرحية في تمثيله، كما أن أداءه يعكس ذلك. لا ينالك الإحساس بأنه يمثل، حينما تراه، وما من وسيلة معينة للتحايل يستخدمها. إنه من نوع الرجال الذين يسعون وراء التطور. كان كاتباً ناجحاً كما حالفه النجاح في التمثيل كذلك، وأعتقد أن نجاحه سيستمر مخرجاً في حياته المهنية أيضاً".
على الرغم من اتساع نطاق العمل الذي اضطلع ايستوود بإخراجه للشاشة، فهل يشعر الآن بالضغوط نفسها التي يعرب كثير من المخرجين الآخرين، أنهم يعانونها حال البدء في إخراج الأفلام الثلاثية الأبعاد؟
فأجاب "مررتُ بالكثير من المراحل في السينما الثلاثية الأبعاد بدءاً من "بوانا ديفيل" وحتى "هاوس أوف واكس". في كل الأوقات تطل علينا السينما الثلاثية الأبعاد وتنال شعبيتها ثم تتلاشى مجدداً. اعتقد أنه سوف يكون أمراً ممتعاً إخراج فيلم بالتقنية الثلاثية الأبعاد، ولكن عليّ أولا أن أعثر على المشروع الذي يكرس نفسه لذلك. وإنني أرى أن ذلك الأمر يتعارض مع بعض أنواع الموضوعات".
وتابع يقول "لم أشاهد فيلم "آفاتار"، لذا، فإنني استميحكم عذراً في ذلك. ولكنني سمعت بأنه كان فيلماً رائعاً. ربما أنني الشخص الوحيد الذي لم يشاهده. والسبب يرجع إلى أنني أودّ مشاهدته في سينما آي- ماكس بكل فخامته وروعته".
وقال إيستوود "اعتقد أن معظم أولئك الذين يصنعون الأفلام، يحاولون الخروج بالأشياء الجديدة. أعني، كان يمكن أن أكون راضياً بالتمسك بنوعية الأفلام التي عرفني الناس من خلالها عبر السنوات الماضية. ولكن في السنوات العشر الأخيرة، أخرجت الكثير من الأفلام التي كانت مختلفة كثيراً بالنسبة لي. لا أعدّ ذلك من قبيل عدم الاحساس بالأمان، بل أرى أنه مجرد تخط جديد لمرحلة من مراحل حياتك، وتعلم وتجربة المزيد من الأمور".
شارف وقتنا على الانتهاء، وبدأ المروّجون ينطلقون في إثرنا، ولكن إيستوود لا يعيرهم انتباهاً. بدلاً من ذلك، تجاهلهم بأدب، متحدثاً عن الممثلين الأيرلنديين الذين عمل معهم، حال ربطه لأزرار سترته، وظل في حضوره وهيبته حتى همّ بالمغادرة بنفسه. هل أشعر بأنني محظوظة؟ بكل تأكيد. هل كان يوماً من أهم أيام حياتي؟ أجل، إلى حدّ كبير.
بروفايل:
كلينت إيستوود
170 عملاً في 80 عام
اعداد : محمد رُضا
مشى خطواته الأولى أمام الكاميرا التلفزيونية سنة 1955 في دور صغير في فيلم تلفزيوني عنوانه «ألن في أرض السينما». في عام 1956 خطا صوب السينما إذ ظهر في «انتقام المخلوق» واسمه لم يظهر في البطاقة الفنية لصغر دوره. أول بطولة سينمائية كانت في فيلم الوسترن الإيطالي «لأجل حفنة من الدولارات» سنة 1964. بعد فيلمين آخرين من هذا النوع، عاد إلى هوليوود نجماً كبيراً. أخرج أول أفلامه «أعزف لي ميستي» Play Misty for Me سنة 1971.
لا يفتأ الممثل والمخرج كلينت ايستوود أن يقفز إلى البال، كلّما نظر المرء إلى هوليوود مستلهماً ما توفّـره من أفلام ومدارس واتجاهات.
ففي الوقت الذي تقاعد فيه كل المخرجين الذين تجاوزوا السبعين من العمر، أو معظمهم الكاسح على الأقل، أو رحلوا عن عالمنا منذ سنوات، لا يزال ابن الرابعة والثمانين شاباً يشغل مساحة حياته بالأعمال السينمائية المتوالية. آخرها طبعاً الفيلم الذي أثار ضجة كبيرة وهو «قناص أميركي» لكونه غاص في وحل الحرب العراقية، عندما تبنّـى موقف الشخصية الحقيقية التي يرصدها كريس كايل (كما قام برادلي كوبر ببطولتها) حيال الحرب المذكورة فبدا فيلمه يمينياً صرفاً، ما جلب له انتقادات اليساريين والليبراليين وقسم كبير من النقاد العرب.
لكن بصرف النظر عن ذلك، يبهرك العمل من النواحي الفنية والتقنية، وهذا ليس بغريب عن مخرج أم العمل منذ 1971 عندما أخرج الفيلم التشويقي النفسي «إعزف ميستي لي» من دون أن يقدّم فيلماً رديئاً واحداً.
أكثر من ذلك، هو «أيقونة أميركية» كما يتفق على تسميته الجميع: مخرج جيد، ممثل لامع، ومنتج يعرف كيف يختار أفلامه ويدافع عنها.
لكن لا شيء من كل هذا كان سهلاً. في سن الثامنة عشرة دخل الجيش لعامين (كان التجنيد إجبارياً آنذاك) وحين خروجه أخذ يستطلع حظوظه في التمثيل. لفت الأنظار بقامته المديدة ووسامته لكنه مُـنح أدواراً صغيرة لحساب شركة يونيفرسال تبعاً لعقد نصّ على أن يتقاضى 75 دولاراً في الأسبوع. فجأة هو البطل الثاني في مسلسل «روهايد» التلفزيوني الذي كان له رواج كبير خلال الخمسينات ومطلع الستينات.
المخرج سيرجيو ليوني حين كان يبحث عن ممثل يسند إليه شخصية البطل في «لأجل حفنة من الدولارات» أشار بأصبعه إلى ذلك الممثل في الصورة من دون أن يحفظ اسمه وقال: "أريد هذا الممثل". وإيستوود، من دون أن يبحث عمن يكون هذا المخرج الإيطالي الذي لم يسمع به من قبل، وافق.
لسنوات طويلة توزّعت أفلام إيستوود بين الكاوبوي والبوليسي. في الأول لعب بطولة عدد لا بأس به من الأدوار بينها أفلام أخرجها بنفسه مثل High Plain Drifter و Unforgiven وThe Outlaw Josey Wales. في النوع الثاني جسّـد شخصية التحري هاري القذر (Dirty Harry) في حفنة أفلام أكدت سطوته ممثلاً بين المشاهدين.
مال إلى الكوميديا وإلى الأفلام العاطفية في مرّات أقل، لكنه منذ أن أخذ يصرف المزيد من جهوده في الإخراج قل ظهوره على الشاشة، حتى إذا عاد إلى الظهور سنة 2008 لاعباً شخصية الجار الأبيض المتضايق مما سمّـاه «غزو الآسيويين للمنطقة» في فيلم «غران تورينو»، عاد بنجاح غريب إذ جمع الفيلم نحو 300 مليون دولار من عروضه الأميركية والعالمية.
• أفضل 10 أفلام له:
The Good, The Bad and the Ugly (1966)
The Outlaw Josey Wales (1976)
Escape From Alcatraz (1979)
Unforgiven (1992)
The Bridges of Madison County (1995)
Mystic River (2003)
Million Dollar Baby (2004)
Flags of Our Fathers (2006)
Letters from Iwo Jima (2006)
Gran Torino (2008)