آل باتشينو لـ "الرجل" : الجوائز لا تقيم جهد الممثل
هوليوود: محمد رُضــا
في واحدة من زياراتي الأولى إلى نيويورك في عام ١٩٨٢ قيل لي إن الممثل آل باتشينو لا يحب المقابلات، ولا داعي لأن "تتعب نفسك". كما أنك ما زلت جديداً على نيويورك وليس لديك علاقات. ولكن المتحدّث، وكان صحافياً شابّـاً يعمل في مكتب مجلة «فاراياتي» الأميركية في نيويورك أسرّ لي بأن "هناك مقهى يرتاده باتشينو في مانهاتن سأعطيك عنوانه. كل مساء في السادسة يجلس هناك لنحو ساعة. جرب حظّـك. هو يؤمن بكل ما هو تلقائي وقد يرتاح إليك ويجالسك لساعة".
أخذت التاكسي في اليوم التالي إلى المكان. وجدت المقهى والوقت كان الخامسة والنصف. دخلت وجلست في مكان مريح أستطيع منه مشاهدة الداخلين إلى المكان. لكنّ اليوم مرّ ولم يأت. امتعضت ثم وعدت نفسي العودة في اليوم التالي. فعلت ذلك لثلاثة أيام. ولم يظهر. في اليوم الرابع قرأت في المجلة ذاتها، أن آل باتشينو موجود في فلوريدا منغمس في تصوير فيلم جديد مع المخرج برايان دي بالما.
لا عجب أنه غيّر مواعيده اليومية. لا يستطيع أن يكون في مكانين في آن واحد.
الفيلم هو «الوجه المشطوب» أو Scarface الذي لعب فيه دور توني مونتانا، المهاجر الصاعد في سلم العصابات والجانح في كل عواطفه حباً وعنفاً على حد سواء. مأخوذ عن فيلم سابق بالعنوان نفسه، لعب بطولته سنة 1932 بول ميوني، وحقق نجاحاً كبيراً حينها. كلا الفيلمين عرف نجاحاً كبيراً، لكن قدرات ميوني محدودة جدّاً مقارنة بقدرات باتشينو الذي لعب هنا أول دور شرير في حياته.
نعم لعب قبل ذلك دوره الشهير في «العراب» الأول والثاني، ونعم لعب شخصية سارق مصارف في Dog Day Afternoon (ما يمكن ترجمته إلى «بعد ظهر يوم لعين»)، لكنه لم يكن الشرير الذي يريدك أن تكرهه في كليهما.
وهل يستطيع أحد أن يكره باتشينو في أي دور؟
يضحك حين أسأله ويرفع أصبع الإشارة إلى أعلى وهو يقول: "أحياناً عدم الكره يعني أنك لم تنجح في دورك. حذار. تريد الناس أن تكرهك في دور مثل «الوجه المشطوب»، لكن من دون أن تكرهك ممثلاً".
حسب المنهج
في «العراب» (1972) نرى باتشينو وهو يفرّ من أمريكا (بعد اغتياله من قتل والده) إلى صقلية حيث يتعرّف إلى فتاة صقلية لا تعرف كلمة من الإنكليزية ويتزوّجها. لكن المافيا تتبعه إلى هناك حيث تتسبب في مقتل زوجته بتفجير سيارته التي ركبتها عوضه. حين يعود إلى الولايات المتحدة، يواصل انتقامه من العصابات المناوئة والمقرّبين إلى عائلة كورليوني، ممّن خانوها، بمن فيهم زوج شقيقته. لكن جزيرة صقلية، لم تكن الموقع الذي فرضته الحكاية فقط. بل هي المكان الذي تعود إليه أصوله العائلية. تحديداً من بلدة اسمها كورليوني أيضاً.
ولد في الخامس والعشرين من نيسان/ أبريل سنة 1940، وعندما بلغ سنتين من العمر انفصل والداه وعاش برعاية والدته. حياته العائلية لم تكن سهلة آنذاك. كان كثير التذمّـر والشغب. لا يكاد يستقرّ في مدرسة أو كليّـة - حين أصبح شاباً - لأكثر من سنة أو أقل. حتى سنّ السابعة عشرة لم يكن باتشينو يعرف الكثير عمّا يريد أن يفعله. فكرة التمثيل راودته في ذلك الحين، لكنه استبعدها، لأنه فكّـر في أنه يريد أن يكون بطلاً في لعبة البيسبول. لكن في مطلع العقد الثاني، كان تأكد له أنه يريد أن يصبح ممثلاً بالفعل. في سنّ الرابعة والعشرين كان يظهر في المسرحيات البديلة، تلك التي يتم إنتاجها بميزانيات صغيرة وخارج نطاق مسارح برودواي المعروفة.
دوره البطولي الأول سنة 1971 حمله إلى النجومية مباشرة، ولم يكن ذلك بسبب دراسته شكسبير والتمثيل المسرحي حسب المنهج (Method Acting) من قبل، بل لأنه أدّى الدور على نحو مقنع للغاية. الفيلم كان «الذعر في نيدل بارك» The Panic in Needle Park الذي حكى عن شاب وصديقته مدمنين على المخدّرات.
- هل لحقيقة أن صديقين لك في تلك الأثناء، ماتا بسبب الإدمان على المخدرات، أي تأثير في أدائك لهذا الدور؟
• لا أستطيع أن أقول ذلك. لقد ترك موت صديقيّ أثراً كبيراً فيّ. منعني من أن أحاول تعاطي المخدّرات. لكن الفيلم أمر مختلف. أنت تعرف أشخاصاً ماتوا نتيجة الإدمان وتعرف أن الإدمان منتشر بين الناس، ثم لديك دور مكتوب جيّـداً. لا يبقى أمامك سوى أن تستخدم كل هذه المعلومات على النحو الصحيح.
- درست تحت إدارة لي ستراسبورغ.
• من بين آخرين، نعم.
- كيف تختلف مدرسة ستراسبورغ عن مدارس أخرى؟ كيف كان تأثيرها فيك؟
• تختلف في نواحٍ كثيرة. تمنحك الفكرة الموازية لما تقوم بتقديمه. تقوم على "التمثيل المنهجي" وليس الطبيعي أو ما يسمّـيه البعض الواقعي. لو كنت تتحدّث في أحد المشاهد عن حادثة غرق مثلاً، فإن ما يدور في بالك حين تتحدّث حادثة الغرق التي لم تقع لك، لكن مجرد السماح لها بأن تنمو في عقلك، يجعلك تمثّـل الدور بقناعة من حدثت معه تلك الواقعة.
- لو كنت في فيلم ما أمام ممثلين آخرين يمارسون التمثيل على نحو مختلف عن طريقتك، هل يتسبّب ذلك في تفاوت مستوى التمثيل؟
• على المخرج أن يكون واعياً لهذه الحقيقة، وفي هذه الحالة لا خوف من الوضع، لأن المخرج سوف يعرف كيف يدير الممثلين تبعاً لمدرسة واحدة منصهرة ومناسبة للفيلم. هناك أفلام كثيرة، كل الممثلين فيها كانوا جيّـدين وهذا يعود إلى المخرج.
- هل «العرّاب» الأول والثاني هما من بينها؟
• جدّاً. في الحالات التي لا يكون فيها المخرج قادراً على إدارة ممثليه، فإن التفاوت الذي تتحدّث عنه محتمل، وهو يؤثر فعلاً في المستوى العام.
عندما رفض الحضور
باتشينو اختصّ بالأدوار الصعبة. ليس لديه إلا حفنة من الأفلام التي لم تتطلب منه شحذ موهبته وتسليم المشاهد أفضل ما لديه. ذلك الفيلم الأول، «الذعر في نيدل بارك» لم يكن سوى البداية التي نتج عنها سلسلة كبيرة من أدوار الشخصيات الداكنة. «العراب» الأول والثاني والثالث (سنة 1999) هي من بينها، كذلك «سربيكو» لاعباً شخصية التحري الذي قرر الكشف عن أسماء زملائه المرتشين ما جلب عليه سخطهم ومحاولات التخلّـص منه، و«بعد ظهر يوم لعين»، حيث كانت نيّـته من وراء سرقة المصرف هي منح المال لصديق يريد إجراء عملية تغيير جنس.
كذلك فيلميه مع المخرج جيري تشاتزبيرغ «الذعر…» و«الفزاعة». وإذا كان أوّلهما يحكي عن شخصية طرية العود غير خبيرة في مسالك الحياة، فإن الفيلم الثاني يتعرّض لشخصية طرية وساذجة أيضاً لا تعرف كيف تشقّ حياتها بقوّة.
أفلام التأسيس لحضور آل باتشينو المبهر والمدهم التهمت المسافات. في وقت لا يتعدّى أربع سنوات حاز باتشينو على الشهرة وفاز بالأدوار الأولى لبعض أهم أفلام الفترة، كما نال الجوائز عنها باكراً. واحدة من تلك الجوائز هي تلك التي منحها مهرجان "كان" إليه سنة 1973 عن فيلم «الفزاعة» مع جين هاكمن.
في العام ذاته كان «العرّاب» قد رُشّـح لإحدى عشرة جائزة تمتدّ من مسابقة أفضل فيلم وأفضل ممثل وأفضل مخرج، وتنتقل إلى جوائز أفضل تمثيل في أدوار مساندة، وصولاً إلى أفضل توليف (مونتاج) وموسيقى.
حين انطلقت النتائج في واحدة من أسخن المنافسات في التاريخ (كان من بين الأفلام القويّـة الأخرى «خلاص» و«كباريه» و«ساوندر»)، فاز الفيلم بثلاثة أوسكارات، هي أفضل فيلم وأفضل ممثل رئيس (مارلون براندو) وأفضل كتابة (فرنسيس فورد كوبولا)، لكن باتشينو لم يكن في عداد الفائزين. ليس أنه كان سيقبل الجائزة لو أنه فاز بها، فهو لم يكن راضياً عن أن يزجّ به في مسابقة أفضل ممثل مساند، معتبراً أن وقته على الشاشة أطول من وقت مارلون براندو وأنه كان بالتالي يستحق المنافسة في هذا النطاق. نتيجة هذا أن امتنع باتشينو عن الحضور وهو الأمر الذي فعله مارلون براندو الذي كان يرى أن جوائز الأوسكار لا يمكن أن تكون دقيقة في معاييرها، خصوصاً حين يأتي الأمر لتقييم جهود الممثلين المرشّـحين.
كان على ذلك الأوسكار أن ينتظر إلى عام 1992، عندما لعب دور العاشق الأعمى في «عطر امرأة» أمام كريس أونيل وغبريال أنور. وكانت مرّت في سماء مهنته سبعة ترشيحات أوسكار أخرى بدأت بـ «العراب» كما أشرنا، وشملت أدواره في «سربيكو» (1973) و«العراب2» (1974) و«بعد ظهر يوم لعين» (1975) و«… والعدالة للجميع» (1979) و«دك ترايسي» (1990)، ثم «غنغاري غلن روس» (1992).
حظه مع "الغولدن غلوبس" لم يكن أفضل بكثير. الجائزتان اللتان فاز باتشينو بهما كانا عن أدوار تلفزيونية: "ملائكة في أميركا» (2003) و«لا تعرف جاك» (2010) ولو أنه مُـنح أيضاً جائزة سيسيل ب. دميل عن مجموع أعماله سنة 2001.
حين سألته في واحدة من المرّات الثلاث التي جلسنا فيها معاً، عمّا إذا كان يعتقد أن المسألة كان فيها تغاض مجحف بحقّـه اعتقدت أن السؤال لم يعجبه. نظر بعيداً لبعض الوقت ثم قال مبتسماً: "الجوائز مثيرة بحد ذاتها. تشحذ الهمّـة. تمنح الممثل طاقة، لكنها لا تقيّـم جهده على نحو كامل، حتى ولو فاز بها. حين تكون شابّـاً تطلبها، لكن حين تكبر تعتاد على أن تصبح خارج أضواء هذه المناسبات".
الاوسكار و ال باتشينو
- هل يهمّـك أن تنال الأوسكار اليوم أكثر من الأمس؟
• الفنان يحتاج دوماً للتقدير وتسعده الجوائز. نعم لا أمانع لو أنني فزت بالمزيد من الجوائز، لكني لا أشعر أن تقييمي الحقيقي مرتبط بها.
كان ذلك في أعقاب دوره في «ذ إنسايدر» سنة 1999. سبع سنوات إثر تلقيه أوسكاره الوحيد، وبعد أن لعب باتشينو أدواراً أخرى عكس فيها ما لديه من قدرة على عرض مواهبه الإدائية في شكل مبهر. فيلمان يبرزان في هذا الصدد هما «طريق كارليتو» (1993) و«حرارة» (1995) وهذا الثاني جمعه للمرّة الأولى مع الممثل روبرت دينيرو وجهاً لوجه.
للإيضاح، كانا ظهرا في «العراب 2» لكن في مشاهد منفصلة. باتشينو كان لا يزال يؤدي دور ابن مارلون براندو، بينما كان دينيرو يؤدي دور براندو نفسه شابّـاً.
في عام 1996 جرّب الإخراج. اختار نصّـاً تسجيلياً بعنوان «البحث عن رتشارد» لاعباً نفسه ومعلّـقاً ومنتجاً، وموضوعه كان وليام شكسبير ومسرحيته «ريتشارد الثالث». لماذا شكسبير؟ لأن باتشينو دائماً ما عدّ نفسه، كما عدّه الآخرون، ممثلاً شكسبيرياً. لذلك لا عجب حين اختار لفيلمه الثاني مخرجاً «وايلد سالومي» (2012) موضوعاً يعيده إلى النص الشكسبيري، على الرغم من أن موضوعه الأساسي هنا كان الكاتب أوسكار وايلد.
- ماذا تقول عن فيلميك التسجيليين؟ ماذا يثيرك في هذا الاتجاه؟ كلاهما يبدو كبحث مضن عن حقائق في الشخصيات الواقعة والمتخيّـلة.
• ما يثيرني هو تماماً ما ذكرته: البحث عن حقائق في تلك الشخصيات. كل من هذين الفيلمين بالنسبة لي هو أشبه بمقالة تكتبها بحثاً عن حقيقة في عمل معروف. ربما تريد البحث في حياة قائد سياسي أو عسكري أو فنان أو أديب… تكتب ما تريد البحث فيه ثم تبحث وتكتب حصيلة بحثك. لكن «البحث عن رتشارد» هو طموح أصغر قليلاً من الطموح الذي حمله «وايلد سالومي».