لماذا نختار الطريق الصعب للقيام بالمهام الشاقة؟
كأننا نكره أنفسنا، هذا ما نشعر به غالبًا عندما نجد أنفسنا عالقين في دوامة من التعقيد، ونزداد تعقيدًا كلما حاولنا حل مشكلة ما.
في هذه اللحظات، نلقي باللوم على أنفسنا، خاصة عندما ندرك أن قراراتنا السابقة قد ساهمت في تفاقم الوضع. والأكثر إحباطًا هو أننا نصر على التمسك بطرق معقدة، على الرغم من معرفتنا بوجود حلول أبسط وأكثر فعالية.
فلماذا نفعل ذلك؟ لماذا نختار الطريق الأصعب؟
العقل وتكرار المألوف.. قصة عشق لا تنتهي
إليكم الواقع كما هو: حتى أكثر العقول ابتكارًا تميل إلى البقاء في دائرة المألوف.
صحيح أنه لا يوجد شخص يرغب في أن يعلق في دوامة الحلول غير المثلى للمشكلات، بيد أن الأبحاث والدراسات كشفت أن البشر يميلون إلى التمسك بمقاربات معينة بمجرد تعلمها، ويحاولون تطبيقها على جميع المشكلات المستقبلية، رغم وجود حلول أخرى أسهل وأكثر ابتكارًا.
بمجرد تعلم مقاربة ما وإتقانها، تصبح أول ما يتبادر إلى الذهن عند التعامل مع العقبات، دون النظر إلى أساليب أخرى. أي أن العقل يحجب أي فكرة بديلة، ولعل هذا ما يفسر سبب عدم قدرة البعض على التفكير "خارج الصندوق".
في إحدى الدراسات التي حاولت فك لغز التمسك بما نعرفه والإصرار على التمسك بمقاربات معقدة، طُلب من مجموعة من الأشخاص إكمال استبيان لشركة ما مقابل بدل مالي. الاستبيان بطبيعته منهك ومعقد، وعند إنجازهم لـ 50% منه، تم طرح خيار آخر أسهل، وهو التحول إلى لعبة ممتعة لإكماله مقابل البدل المالي نفسه. والنتيجة كانت أن قلة قليلة قامت بتبديل المقاربة.
السبب الذي يجعلنا نقوم بذلك هو ما يطلق عليه الخبراء تسمية "الترسيخ" (Entrenchment)، وهو التمسك بالمقاربات التي نألفها، سواء كانت نافعة أم لا للمشكلة الحالية.
الأمر أشبه بالخيارات التلقائية التي نعتمدها حين نقوم بتحميل برامج جديدة على أجهزة الحاسوب.
فالعقل البشري يملك أيضًا ميزة الخيارات التلقائية، وذلك من خلال تحول السلوكيات المتكررة، عن قصد أو من دون قصد، إلى خيارات تلقائية، وفي الوقت نفسه يقلل الاعتماد على أجزاء الدماغ المسؤولة عن التفكير الواعي.
والأكثر غرابة في مبدأ التمسك بما هو معروف هو أن الشخص المعني غالبًا ما يعتبر أن تبديل آلية العمل، بعد البدء بتنفيذ المهام، سيكون مهمة صعبة للغاية. أي أن عقلنا يبلغنا أن تبديل آلية عملنا المعقدة إلى آلية سهلة هو أمر بالغ الصعوبة، ومن ثم علينا الاستمرار وفق النهج الصعب نفسه!
منحازون بالفطرة للتعقيد
الخيارات الآلية التي تدفعنا للتمسك بما هو مرسخ في عقلنا ليست المعضلة الوحيدة، إذ أننا نميل أيضًا إلى تعقيد الأمور، وهو ما يطلق عليه مصطلح "الانحياز للتعقيد".
أي شخص، وعند مواجهة فرضيتين أو مقاربتين، سيميل إلى اختيار الأكثر تعقيدًا، وذلك لأنه يخيل إليه أن الحلول البسيطة "غير ناجحة"، ومن ثم يتم تجاهلها بشكل كلي.
على سبيل المثال، شخص يعاني الإرهاق الدائم يصر على القيام بجميع أنواع الفحوصات الطبية وتبديل نظامه الغذائي، رغم أنه يدرك أن المشكلة هي بسبب الحرمان من النوم.
والمثير في المقاربتين، سواء الترسيخ أو الانحياز للتعقيد، أنهما يحدثان لتوفير الطاقة العقلية، بيد أنه ينتهي بنا المطاف مستنزفين كليًا، عقليًّا وجسديًّا.
اقرأ أيضًا: خفايا انتقال السلطة: سيكولوجية تسليم القيادة بين المديرين التنفيذيين
التعقيد سمة عامة في أماكن العمل
تتكون الشركات من أفراد، وكما سبق وذكرنا، تميل عقولنا بشكل تلقائي إلى التعقيد، ومن ثم نجد أنفسنا أمام تعقيد جماعي من الأدوار والمهام والمسؤوليات والمشاريع. وكلما علقت المؤسسة في هذه الدوامة، عانت أكثر: مزيدًا من المهام، الكثير من الموظفين، ونتائج دون المطلوب.
بالإضافة إلى ذلك، عالم الأعمال متبدل ومتغير، ومن ثم هناك "حركة" دائمة، وما كان ذات أهمية قبل فترة، لا أهمية له حاليًا، ما يعني تراكمًا في التعقيد، لأن التبسيط يتطلب جهدًا كبيرًا لا يملك القادة الوقت أو الطاقة لتطبيقه، وهذا ما يضيف طبقة إضافية لعقلية التعقيد كبديل عن التبسيط.
يتم التعقيد أحيانًا من أجل ضمان الأمان الوظيفي، لأنه يستبعد غير المتخصصين. فمثلاً، استخدام المصطلحات التجارية المعقدة يمكنها أن تحمي الأدوار في الشركات من خلال جعل المناقشات بين الذين "يعرفون" غير مفهومة للآخرين.
ولكن هذه المقاربات منهكة ومضرة، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، لكونها تقلل الإنتاجية والأرباح.
استراتيجيات للحد من تأثير الترسيخ
الترسيخ وتفضيل المقاربات المعقدة جزء من حياتنا، ما يعني أن آلية الحد من تأثيرها ستبدأ من العادات اليومية لتطال الحياة المهنية.
في العمل كما في المنزل، هناك العديد من المهام التي تجعلنا ندور في فلك الترسيخ، ولكن بعض التعديلات يمكن أن تمنع العقل من حجب الأفكار الأخرى.
توقف وقيّم: معرفة المشكلة هو نصف الحل، ما يعني أن تقييم ما نقوم به سيجعلنا ندرك متى نلجأ إلى التمسك بما هو صعب. حينها يجب التوقف وإرغام النفس على اعتماد بدائل أخرى. على سبيل المثال، عندما تجد نفسك تقوم بكتابة بريد إلكتروني طويل ومعقد على هاتفك، خذ فترة راحة قصيرة، لأن ذلك من شأنه أن يجعلك تدرك أن إكماله على جهاز الكمبيوتر الخاص بك أسهل بكثير.
لماذا؟: طرح السؤال حول سبب اعتمادنا هذه المقاربة أو تلك من شأنه أن يساعد على تبسيطها. اعتمادنا طريقة معينة في إنجاز المهام لا يعني أنها الطريقة الصحيحة الوحيدة، فهناك طرق أخرى أكثر سهولة يمكن أن يُرغم العقل على وضعها بالحسبان عند إعادة تقييم أساليب إنجازنا للمهام.
البساطة أولاً: العقل سيلجأ إلى التعقيد بشكل دائم وسيحاول إقناعكم بأنه لا يوجد مقاربة أكثر فعالية من هذه. عليكم تجاهل كل ذلك ووضع المقاربات الأخرى بالحسبان. نعم، عقلكم سيحاول إقناعكم مجددًا بأن القيام بهذا منهك وسيستهلك الكثير من الوقت، ولعل الأفضل أن تبدأوا بإنجاز المهام فورًا. كي لا تعلقوا في هذه الدوامة، يمكنكم الحصول على رأي شخص آخر يمكنه رؤية الصورة كاملة بشكل موضوعي وتقديم اقتراحات لتبسيط المقاربات.
العودة إلى الأساسيات: عندما تقومون بالاطلاع على ما عليكم القيام به، عقلكم سيقوم "بفرض" المقاربة التي إما قد تكون معقدة وإما قد لا تتناسب مع طبيعة المهمة. هنا عليكم تجريد أفكاركم من كل "الإضافات" والبناء على المبادئ الأولية.. وهذه المقاربة ستساعد على تبني عقلية تبسيط الأمور عوض تعقيدها على المدى البعيد.