العبر المستفادة: كيف نتعلم من أزمة القيادة في الواشنطن بوست؟
في عالم الصحافة، تُبنى المصداقية على أسسٍ راسخة من الأخلاقيات والنزاهة. لكن ماذا يحدث عندما تهتزّ هذه الأسس وتطالها شبهاتٌ مشكوكٌ بها؟
هذا ما تواجهه صحيفة الواشنطن بوست Washington Post العريقة، بعد الكشف عن ممارساتٍ مشكوكٍ بأخلاقياتها قام بها مديرها التنفيذي الجديد، يليام ويلس William Lewis، خلال توليه مناصب قيادية في مؤسسات إعلامية أخرى في المملكة المتحدة.
فهل ستتمكن الواشنطن بوست من تجاوز هذه الأزمة، أم ستُفقد مكانتها كمنبرٍ للحقيقة؟
تُسلّط هذه المقالة الضوء على تفاصيل هذه الفضائح، وتُناقش مستقبل الواشنطن بوست في ظلّ هذه التطورات، وتستكشف خيارات مالكها، الملياردير جيف بيزوس Jeff Bezos، في التعامل مع هذه الأزمة.
تفاصيل أزمة الواشنطن بوست
في نهاية عام 2022، كانت صحيفة الواشنطن بوست في حالة من التخبط بعد أن فقدت نصف جمهورها وسجلت خسائر تجاوزت 77 مليون دولار. سعى جيف بيزوس، مالك الصحيفة، إلى حل هذه الأزمة، فاستعان بخدمات وليام لويس، الذي يتمتع بتاريخ طويل في عالم الصحافة، على أمل أن ينتشل الصحيفة من أزماتها.
لكن لويس جاء محاطًا بمشكلة كبرى، تتمثل في ممارسته دفع أموال مقابل الحصول على معلومات، وهي ممارسة شائعة في بريطانيا، لكنها غير مقبولة على الإطلاق في الولايات المتحدة، ومحظورة وفقًا لقوانين الأخلاق الخاصة بالصحف، بما في ذلك صحيفة الواشنطن بوست.
فور تعيينه، بدأ لويس بإعادة ترتيب أوضاع الصحيفة، وشمل ذلك تبديلات وتعديلات جذرية.
ورغم أن تفاصيل وضع الرئيس التنفيذي للصحيفة ليست فريدة من نوعها، فإنها تُتيح لنا فرصة لدراسة ما يحدث عندما تستعين مؤسسة بشخص من الخارج لقيادتها، ويبدأ الوافد الجديد بداية مضطربة أو مثيرة للجدل. فما هي الدروس التي يمكن للقادة وأولئك الذين يوظفونهم استخلاصها من اضطرابات الواشنطن بوست؟
المزيد من أماكن العمل أصبحت مثل غرف الأخبار
غرف الأخبار أماكن فريدة من نوعها. حاول أن تتخيل صناعة أخرى تُجري فيها الشركات، وبشكل علني، تحقيقاتٍ في شؤون الرئيس التنفيذي لشركة منافسة أو تُدقق في شؤون مديرها التنفيذي الخاص!
حاول أن تتخيل صناعة أخرى يتجرأ فيها موظف في منصب متقدم على انتقاد مديره الجديد علنًا، كما فعل ديفيد مارانيس، الذي عمل في البوست لمدة 47 عامًا.
يتعلم الصحفيون في وقت مبكر أن "قول الحقيقة سلطة"، ومن ثم تتحول غرف الأخبار إلى ما يشبه مجلس إدارة ظل. فإذا لم يعجب الصحفيين الطريقة التي يُعاملون بها أو يُقادون بها، أو إذا شعروا بأن الرئيس لن يدعمهم عندما يتناولون قصصًا مثيرة للجدل، فإنهم سيشتكون وينتقدون حتى يُشعروا الناشر بالقلق من إمكانية خسارة رئيس التحرير لدعم غرفة الأخبار.
لأسباب عديدة، انتقلت موازين القوى إلى العمال في عدد كبير من المؤسسات، كما أن ازدياد استعداد الأفراد لطرح الشكاوى الخاصة بالعمل على مواقع التواصل الاجتماعي نقل الشفافية التي كانت في فترة ما حكرًا على غرف الأخبار إلى الشركات الأخرى.
وفي الوقت نفسه، نُقلت العديد من المشكلات الاجتماعية من الوكالات الحكومية إلى الشركات التي أُجبرت على حلّها، وذلك بعد تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية.
وعليه، لم يعد قادة الأعمال يتخذون قرارات تُعنى بشركاتهم فقط، بل باتوا يجدون أنفسهم، أحيانًا برغبتهم وأحيانًا أخرى عن غير قصد، مضطرين لاتخاذ مواقف بشأن قضايا أكبر وأشمل.
الانغماس في ذلك يعني موجات من الاعتراض من الذين لا يوافقون على رأي المدير. ومع ذلك، لا يزال العديد من القادة يشعرون بأنهم مُضطرون للحديث عن هذه القضايا لضرورة امتلاكهم لهدف أعلى.
الدرس المستفاد هو أنه إن كنت كقائد في مؤسسة ستقوم بذلك، فعليك أن ترتقي إلى المعايير التي تتحدث عنها، وإلا ستواجه خطر الانتقادات الحادة التي ستُوجه ضدك في حال كان هناك أي تناقض بين أفعالك وبين المعايير التي تحدثت عنها.
اقرأ أيضًا: مهارات القيادة في العمل.. هكذا تكون قائدًا ناجحًا "كما يقول الكتاب"
التحقق من القادة يجب أن يركز على الشخصية
في العقود الماضية، تم الاعتماد بشكل كبير على العلم والأدوات التقنية وعلى الذكاء الاصطناعي من أجل تقييم الأشخاص المرشحين لمناصب متقدمة. ما حصل مع صحيفة الواشنطن بوست من خلال تعيين لويس يؤكد أن اختيار الشخص وفقًا للمهارات والكفاءات ليس بديلاً عن التحقق الفعلي، أي التدقيق في ماضي القائد المحتمل مع التركيز على مجموعة السمات التي تُعتبر أنها تشكل شخصية الفرد.
العديد من الشركات الكبرى باتت تستعين بمحققين خاصين للبحث في ماضي المرشحين، قبل تقديم أي عرض لهم.
لا أحد يريد أن يعاني نفس مصير "بي بي BP"، التي أعلنت في سبتمبر الماضي أن المدير التنفيذي بيرنارد لوني Bernard Looney استقال بعد اعترافه بأنه "ضلل مجلس الإدارة عن قصد" من خلال عدم الإفصاح الكامل عن علاقاته العاطفية داخل الشركة. وبما أنه كان عضوًا في BP طوال حياته المهنية، فإن انتهاكاته تُعد قصة تحذيرية للمجالس للتحقق من المرشحين الداخليين بقدر المرشحين الخارجيين لتقليل المخاطر التي تُهدد سمعة الشركة.
تحتاج الشركات إلى إمضاء الوقت من أجل فهم التأثيرات التي صاغت شخصية القائد، ولأنها تُعتبر أفضل مؤشر على آلية تعامله مع تحديات القيادة غير المتوقعة، خلافًا لتقييم برامج الذكاء الاصطناعي وغيرها. يبدو أن جيف بيزوس لم يُمضِ الكثير من الوقت في تقييم ماضي لويس، فمنذ توليه منصبه والقرارات التي اتخذها لم يكن لها أي تأثير إيجابي على الصحيفة، بل على العكس انعكست سلبًا داخليًا وخارجيًا.
عندما يتعثر القائد، الصبر ليس دائمًا فضيلة
تتطلب القيادة بطبيعتها توازنًا بين الصبر والاستعجال، لكن هناك دائمًا خطر المبالغة في اختيار أحدهما. ومن المعروف أن مجالس الإدارة غالبًا ما تكون صبورة للغاية. تُبقي العديد من العوامل المديرين التنفيذيين في مناصبهم لفترة طويلة حتى لو كانوا لا يؤدون عملهم بشكل جيد أو يضرون بالعلامة التجارية. تتردد المجالس قبل الاعتراف بارتكابها خطأ جسيمًا عند اختيار القائد في المقام الأول.
غالبًا ما تتبع المجالس مبدأ "الشيطان الذي تعرفه" - فالعثور على مدير جديد مهمة صعبة، ومن يدري ما إذا كان سيكون أسوأ من الموجود حاليًا.
لكن العالم الخارجي لا يعمل وفق هذه الوتيرة. والثمن الذي تدفعه المؤسسات لعدم اتخاذها القرارات بسرعة يمكن أن يكون باهظًا جدًا، سواء من حيث استغلال المنافسين لنقاط الضعف أو ردة فعل الجمهور تجاهها.
اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة هو مسؤولية أساسية لمجالس الإدارة، والتي غالبًا ما لا تحسم أمرها بسبب النصائح المتناقضة من جميع المستشارين الذين يحيطون بها.
كيف يمكن إصلاح الوضع؟
على عكس الشركات العامة، فإن صحيفة الواشنطن بوست مملوكة بنسبة 100٪ لجيف بيزوس وليس لديها مجلس إدارة، لذا فإن مصير لويس يعتمد فقط على قرار المالك. لكن في شركة تقليدية أكثر، عندما يختار مجلس الإدارة شخصًا من الخارج ليصبح القائد، وتظهر علامات أولية على "رفض المؤسسة"، ماذا يجب على المديرين فعله؟
الخطوة الأولى هي تقييم ما إذا كانت المشكلة تتعلق بالأسلوب أكثر أم بالجوهر. يمكن معالجة الأولى بسهولة، فقد يكون القائد قد اتخذ قرارات لم تتناسب مع الثقافة الحالية للشركة أو تعامل مع المواقف بأسلوب غير مقبول. يمكن حل هذه المشكلة من خلال التدريب بعد إعلام القائد بالمشكلة والتعديلات التي عليه إدخالها على أسلوبه.
ولكن في حال كانت المشكلة تتعلق بالجوهر، خاصة في حال كانت المشكلة تتعلق بالعمل الأساسي للمؤسسة، فالأمور أكثر تعقيدًا. على سبيل المثال، لا يمكن تخيل تولي مدير تنفيذي لشركة بوينغ ما لم يملك هذا الشخص سجلاً لا غبار عليه في مجال السلامة، وذلك لأن سمعة المؤسسة حين يتعلق بهذه الجزئية سيئة.
تبديل الأوضاع عندما تكون الأشهر الأولى في الوظيفة سيئة يمثل تحديًا كبيرًا لأي قائد جديد. الخيار الوحيد القابل للتطبيق لكسب ولاء الموظفين هو الاعتراف الكامل بالأخطاء، والاعتذار، متبوعًا بإجراءات ملموسة تُظهر نهجًا جديدًا. كلمة "أنا آسف" البسيطة يمكن أن تكون قوية، حيث تُظهر الضعف، وهي خطوة مهمة نحو بناء الثقة.
لقد قدم لويس اعتذارًا من هذا النوع، على الرغم من أن فعاليته لا تزال غير واضحة.
الدرس المستفاد لمجالس الإدارة ولأولئك المشاركين في توظيف الرؤساء التنفيذيين واضح: يجب النظر إلى الرؤساء التنفيذيين كسياسيين، يخدمون بناءً على رغبة "الناخبين"، أي الموظفين والآخرين الذين لديهم مصلحة في اتجاه الشركة وقيادتها.