محمد نصار يكتب: البحث عن تلمي بن هنأوس
كنت أتامل عالِم آثار في عمليات التنقيب الواسعة في العلا، يمسك فرشاة في يده ويزيل بحذرٍ وصبرٍ الترابَ عن قطعة أثرية، وشعرت بأن مساحةً ما هناك يلتقي فيها شغف عالِم الآثار مع شغف صانع الأثر (التمثال)، فكلاهما عاش نشوة الاكتشاف:
الأول فكر بمن سيأتي بعده ويقدر قيمة ما صنع، والثاني يتشوق ليرى ويعرف ماذا فعل الصانع؟ كيف؟ ولماذا؟
في هذه المساحة بالضبط اشتغل فريق "الرجل" على عمل صحفي استقصائي استثنائي، بشغف عالم الآثار، الذي يعيد تشكيل المعنى واكتشاف الأسرار المدفونة، بحثًا عن ملك عاش قبل نحو ألفي عام وحكم مملكة عظيمة، ولا يتوفر عنه ولا عن مملكته سوى نزر يسير من المعلومات المتناثرة، وعدد من القطع الأثرية المحطمة والمنحوتة بإتقان قل نظيره.
الملك تلمي بن هنأوس، بلا ملامح بلا جسد، بلا سيرة تاريخية، فقط اسم يتكرر في النقوش، والنقوش لا تتحدث عنه ولا تروي ماذا حدث معه، لقد استُخدم بوصفه تاريخًا، يُذيّل به النقش، تمامًا كما نفعل نحن اليوم حين نذيل ورقة رسمية بكتابة التاريخ، كأن يذكر أحدهم حدثًا وقع في ذلك الزمان ويختم قائلاً: حدث هذا في السنة 25 من حكم الملك تلمي بن هنأوس ملك لحيان، نعم كان التاريخ يبدأ بسنة حكمه، تتكرر النقوش والاختلاف الوحيد هو سنة حكمه، هذا كل ما قيل عنه وربما أضاف أحدهم إليه لقب الملك الراعي تلمي بن هنأوس.. ليس أكثر.
ولكن مهلاً، هذا ليس بالقليل، فأي معانٍ ينطوي عليها أن يكون الملك هو بداية الزمن..هو التاريخ؟!
في العادة يمتلئ التاريخ بأسماء الملوك والعظماء، لكننا نحن هنا أمام حالة معاكسة، فرغم شيوع الكتابة في دادان، بما يزيد على ألف نقش مكتشف ومعتمد، ورغم دخول جبل عكمة في سجل "ذاكرة العالم" بتصنيف اليونسكو لاحتوائه على نحو 300 نقش على الصخر، أكبر مكتبة مفتوحة في العالم، رغم كل هذا لا تكاد تذكر كل تلك المدونات أسماء الملوك، حتى أن الباحثين لم يستقروا على رأي واحد في تسلسلهم الزمني وعددهم.
في ظل هذه المعلومات الضئيلة التي تقول الهيئة الملكية لمحافظة العلا إنها تمثل ما نسبته 10% فقط من تاريخ الحضارة اللحيانية، كان على فريق الرجل أن يبني قصة الملك تلمي بن هنأوس، لا، بل يجسد صورته وملامحه في رسم تقريبي استنباطي، اعتمادا على التماثيل واللقى التي تعود لتلك الحقبة!
اقرأ أيضًا: محمد نصار يكتب: كوابيس الذكاء الاصطناعي
أعود لأقول إن الشغف كان نقطة الحسم لصالح الخوض في مغامرة التقصي هذه، الشغف أولاً، والبحث عن المعنى ثانيًا، باختبار مسار جديد في ثقافة وتاريخ العرب، مسار يفتح شرفة جديدة على تاريخ المملكة العربية السعودية، يربط الماضي بالحاضر، ويعيد الألق لحاضرة ثقافية، كانت منارة الصحراء، حقيقة لا مجازًا.
نحن نتحدث عن دادان التي عرفت أكثر من سبعة أنواع من الخطوط، وربطت الجنوب بالشمال لوقوعها على طريق البخور، ولطالما ارتبط اسمها بمحبة سراة قوافل الإبل والتجار والحجاج والمسافرين، زادهم وأمانهم وسط الصحراء.
عرفت دادان (العلا) بحنكة من قادها وبثقافة أهلها، هذه المزاوجة الفريدة بين الدين والتجارة، فوق أرض طيبة وفيرة الظلال والماء، تقوم على السلام والمحبة والتعايش، عوامل كانت كافية لنشوء حضارة وثقافة جديرة حقًّا بأن تكتشف 100% .
بالتأكيد لا يمكن أن نستعيد الماضي، وكل استعادة له هي عملية خلق جديدة له أو لصورة متخيلة عنه، ولكن من الثابت أننا أمام مسار مدهش لما صنعه الإنسان في هذا المكان الذي يجد كل يوم أسبابًا جديدة تؤكد رمزيته وأهميته، في انتظار الرواية الكاملة فيما ستسفر عنه الحفريات وأعمال التنقيب التي إن ظهرت ربما تغير ثوابت تاريخية عديدة.
بقي أن أتوجه بشكر خاص للإخوة في الهيئة الملكية لمحافظة العلا على الدعم الكبير وإتاحة الفرصة للحصول على معلومات خاصة من مصادرها الأصلية لإتمام مشروعنا في سرد قصة تلمي بن هنأوس.