تداعيات سوء الفهم في التواصل
يحدثني قبطان طائرة مدنية، بأن سوء فهم الكلام المسموع بين قائدي الطائرات أو بينهم وبين برج المراقبة يشكل مشكلة خطيرة في عالم الطيران أودت بحياة آلاف الناس بسبب لحظة سوء فهم. ولأن كل ثانية في عالم الطيران قد تنقذنا من ارتطام محقق أو كارثة تصادم جوي لا تحمد عقباها فقد قرأت أن منظمة ICAO العالمية شرعت في تطبيق وسيلة تخاطب أو حروف صوتية Phonetic Alphabet تؤكد للسامع صحة ما تناهى إلى أسماعه من كلام عبر موجات الأجهزة اللاسلكية. فمثلا حينما يسمع قائد الطائرة من برج المراقبة بأن موقف طائرته هو حرف F والتي أحيانا ما تسمع كحرف S هنا يستخدم المتحدث الحروف الصوتية فيقول F من Fox أي ثعلب أو أن يقول B من "براڤو" لأن هذا الحرف أيضا يلفظ في بعض اللهجات كحرف D. وعليه تم اعتماد قائمة دولية خاصة فيها كل حروف الهجاء ويقابل كل حرف كلمة سهلة تبدأ بالحرف نفسه، فصارت تستخدم لاحقا في حجز الطائرات والفنادق وغيرها لحسم مسألة سوء الفهم.
وربما يسأل سائل لماذا يأخذ الموضوع هذه الأهمية، ونقول إن تاريخ الطيران الحديث قد شهد حوادث مأساوية عدة بسبب عدم التأكد مما تم سماعه. ومنها الحادثة الشهيرة التي وقعت حينما كان قائد طائرة أوروبية يهم بالتحرك بطائرته نحو مدرج الإقلاع في جو ماطر فقال لبرج المراقبة بأنه في موقف C وأنه سيتحرك نحو المدرج للاقلاع فسمع كلمة نعم من البرج فظنها موافقة على الطيران في حين كان البرج يقصد أنه عَلِمَ بموقع الطائرة وأنها تنتظر الموافقة على دخول إلى المدرج، فدخلت الطائرة المدرج وإذ بطائرة أخرى تهم بالهبوط فوقعت أشهر حادثة تصادم في تاريخ الطيران المدني آنذاك راح ضحيتها مئات الركاب الأبرياء. والسبب خلل في التأكد من دقة الفهم. ولذا تجد قائدي الطائرات يستخدمون مصطلحات مثل read-back أي أعد قراءة ما قلت وذلك لمزيد من التأكد.
والتأكد من دقة الفهم ليس مقصورا على الحروف، فمنه الإيماءات الجسدية التي لها دور في فهم الرسالة المراد إيصالها مثل حركات اليدين والذراعين للمضيفات وهن يشرحن إجراءات السلامة ومواقع المخارج. وكذلك الموظفين الأرضيين الذين يشيرون بأيديهم إلى قائد الطائرة بالتصرف المناسب فيؤكد لهم بإيماءة أنه فهمهم.
وتبقى قضية تأكيد الفهم ضرورية في حياتنا الخاصة أيضا. ومن طرقها، مثلا، إعادة الكلام المسموع أو إعادة صياغته مثل قولنا للمسؤول: "إذن تريد التقرير الفلاني الذي فيه كذا وكذا قبل تاريخ كذا". وإذا كان رده بالإيجاب فقد اكتملت عملية الفهم.
ذلك أن عملية فهم الكلام المسموع تمر في ثلاث مراحل: السماع، الفهم، ثم الرد. لكن معظم أخطاؤنا تكمن في الاستعجال بالرد قبل التأكد من الفهم. وهذا ما يدفع كثير من المهنيين أو من يتعاملون مع قضايا حساسة كحقوق الناس المادية وغيرها بأن يدونوا ما تم الاتفاق عليه لنفي الجهالة أو النسيان.
وتجدر الإشارة إلى أن تجاهل أهمية استيعاب الكلام المنطوق يهدر أوقاتنا وقد يكلفنا تبعات مادية. مثل من يظن أن مديره كان يقصد طباعة تقرير من ٢٠٠ صفحة ملونة فيكتشف أنه كان على خطأ أو يهدر ساعات في عمل ما لم يكن المدير أصلا يقصده. ولو حسب المرء ساعات العمل لأدرك القيمة المادية للوقت المهدور. كأن يقسم راتبه الشهري على أيام العمل شهريا (٢٦ يوما) فيظهر له أجره اليومي ثم يقسمه على ساعات العمل اليومية (٧-٨ ساعات) فيكون الناتج أجره بالساعة الذي يضربه في عدد الساعات المهدرة على تقرير لم يطلبه المدير!
لكن بعضنا يرى أن وقته لا يقدر بثمن وعليه لا يجب أن نستغرب من حساسيتهم من عدم وضوح التعليمات ولا من حرصهم الزائد على مسألة التأكد مما يسمعون قبل الشروع بالمهمة، لأن الفهم الجيد يوفر علينا جهدا ووقتا كبيرا.