محمد النغيمش يكتب : "الشعور بالوحدة" لدى المدير
من أمتع لحظات الحياة الوظيفية تلك التي عاش فيها الموظف مرؤوساً أي لم يصل بعد إلى “عتبة” المراتب الإدارية. فهو لديه زملاء كثر (مرؤوسون) يديرهم مدير واحد. وهذا مبدأ إداري يسمى "وحدة الأمر" أطلقه عالم الإدارة الشهير هنري فويل، قبل عقود؛ أي أن من حق كل مرؤوس أن يكون له مدير واحد. غير أن وحدة الأمر حادت عن هدفها الأساسي، فوحدت على ما يبدو جبهة النزاع. فصار الناس (المرؤوسون) يصبّون جام غضبهم على ذلك المدير، ويعلقون عليه، كمشجب، كل شيء يكرهونه في حياتهم الوظيفية وكأنه هو من دفعهم إلى العمل. صحيح أن بعض الانتقادات مشروعة لكن المدير في نهاية المطاف المفترض فيه أن “يدير” من تحته في السلم الوظيفي، فالعبء الأكبر يقع على العاملين معه. ولو أتيت بأفضل مدير، فسوف يجد صعوبة في الإنجاز مع مرؤوسين متراخين. خلاصة القول أن هذه الأجواء تخلق حالة من النقد الدائمة لجبهة واحد وهي المدير.
وكلما ارتفع المدير بالهيكل التنظيمي، زاد شعوره بالوحدة. فالمدير ليس كمرؤوسيه يستطيع التعبير عن نقده للسياسات والقرارات الإدارية بكل أريحية، كما كان يفعل في السابق، والسبب أنه صار في "وجه المدفع" كما يقال. وعندما ينتقد مثلاً "سخافة" قرار صادر من جهات عليا، أو "عدم اتفاقه" معه، فهو كما "يحرّض" العاملين معه على التراخي أو عدم أخذ ذلك القرار على محمل الجد. وتقع المشكلة في نهاية المطاف على رأس المدير الذي ليس هو من استطاع تغيير القرارات ولا الذي طبقها، فيصبح بين سنداني انتقادات الإدارة العليا ورأيه الشخصي الذي لا يميل إلى تلك القرارات. غير أن هذه هي حال عالم الإدارة فليس كل ما تريده يحدث لأنك لم تصل بعد إلى مرتبة القيادة العليا أو رئيس المنظمة الذي بيده سلطة التغيير الجذري. وحتى القائد الكبير نفسه رغم جلوسه على رأس الهرم الوظيفي، ستجده مضطراً إلى الانصياع إلى تعليمات مجلس الإدارة أو الوزراء أو المجالس الرقابية العليا.
وهناك أمور أخرى قد تفاقم شعور المدير بالوحدة، من ناحية عدم استطاعته التعبير عن مكنوناته بأريحية، كما كان يفعل قبل حمل المسؤولية (أيام الحياة المرؤوسية). فمن المشكلات التي تدفع المدير للشعور بالوحدة مواجهته للصراعات والنزاعات الداخلية بين الإدارة العليا وأطراف أعلى منها أو بين الإدارة العليا والجهات الداخلية التي يتعين عليه التعامل معها، فلا يستطيع أن يبوح بذلك وفي الوقت نفسه يتوقع منه أن ينجز المهام والأهداف بالسرعة المطلوبة، حتى إن كان يسير في حقل ألغام. وهذا ما يجعل المدير يدفع مرؤوسه فجأة عن "لغم إداري" يكاد ينفجر فيه، لكنه لا يستطيع أن يشرح سبب تلك الدفعة التي عدّها المرؤوس إساءة بالغة لكرامته. فيذهب ذلك المرؤوس العديم الخبرة إلى جوقة المرؤوسين وتبدأ حفلة النقد والغيبة والنميمة في المدير الذي أسقط في يده، فهو كونه مسؤولاً لا يستطيع أن يشرح معاناته وفي الوقت نفسه لا بدّ أن يصبر على الأذى لينجز العمل.
كما أن المدير قد يعيش في دوامة الوحدة بسبب قرارات ارتكبها "الحرس القديم" وبعضها في غاية الحساسية لارتباطها بملّاك الشركة أو شخصيات ذات نفوذ، فتجده يحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، في وقت يوجه له مرؤوسوه وحده أصابع النقد!
ومما يفاقم الشعور بالوحدة لدى المدير أنه "ابتُلي" بمرؤوسين عديمي الخبرة، ويفتقرون إلى الرغبة الجادة في التعلم، والأسوأ الانصياع للتعليمات مستندين إلى واسطتهم التي عينتهم على الطريقة "البراشوتية". فهو مضطر إلى إنجاز الأهداف، وفي الوقت نفسه لا يستطيع أن يغير هؤلاء من أصحاب النفوذ تحته. وإذا كان الأمر مرتبطاً بجهة عامة فإنه قد يصبح عرضة للتسريبات الإعلامية عن أداء إدارته. والمشكلة أنه لا يستطيع أن يرد أو يوضح لاعتبارات بديهية. كما ليس في مقدور المدير أن يشتكي دائماً من مرؤوسيه، لأن النقد عادة سيرتد إليه لكونه هو المقصر في نظرة الإدارة العليا.
وهذه هي معضلات المديرين التي تفاقم شعورهم بالوحدة. ولهذا السبب يراودهم بين حين وآخر إحساس بالحنين للعودة إلى أيام "المرؤوسين"، حيث لا مسؤولية ولا هموم حقيقية يحملونها على عاتقهم. وهذه هي ضريبة العمل الإداري.