هل "تعيبنا" خلفياتنا الثقافية في العمل؟
كثيراً ما تقع خلافات حادة بين العاملين، إذا كانوا من خلفيات ثقافية مختلفة. وهذا الخلاف حيّرنا، وقاد العاجزين عن تفسيره، إلى الاعتقاد بأنهم أفضل من غيرهم، أو أنهم يتحلّون بالذكاء، في حين لا يشاطرهم "الأجانب" و"الوافدون" تلك الخصلة! وذلك ليس سوى نفس عنصري، أو قد يخفي جهلاً بثقافات الشعوب.
العالم هال Hall جاءنا بدراسة مهمة، أضحت تدرّس في الجامعات وبرامج تدريب القياديين والمديرين، في التعامل مع الاختلافات الثقافية. فهو تمكن من تصنيف شعوب عدّة في خط أفقي مستقيم، تقع على يسار الناظر إليه، بلدان في سياق ثقافي "منخفض" low-context كما أطلق عليهم. وهم بحسب الترتيب: الألمان، والإسكندنافيون، والأمريكان، والإنجليز، والفرنسيون. وهذا يعني أن هؤلاء عادة ما يحددون بوضوح ما المتوقع من الطرف الآخر، ويسعون عادة إلى تدوين حواراتهم الشفهية، إذا كان ذلك ممكناً، وتتحلى اتفاقاتهم بأنها مكتوبة. ولوحظ ما هو عكس الاعتقاد الشائع بأن الأمريكان مباشرون أكثر من غيرهم إذ تبين أن الألمان، عموماً، من أكثر الشعوب في ذلك، يتلوهم الإسكندنافيون ثم الأنجلوساكس (أمريكا وبريطانيا).
أما الطرف الأيمن من الخط الأفقي، فيشير إلى شعوب تتحلى بالنقيض تماماً، ومنها العربية. على سبيل المثال عندما يطلب مدير ألماني أو إنجليزي جديد من مرؤوسه الآسيوي أو العربي طلباً مباشراً، ومن دون مقدمات، فقد يرى المرؤوس ذلك نوعاً من الفظاظة. وإذا حرص مدير إنجليزي على تدوين كل طلباته للعربي، فقد يفسّر الأخير هذا الأسلوب في التواصل، بأنه محاولة مقصودة "لتصيّد أخطاء" مستقبلية للعاملين معه.
ويعود السبب في ذلك إلى أن العربي أو الآسيوي، يركزان على العلاقات الوطيدة، والثقة بصورة تفوق التعليمات المباشرة والمكتوبة. وربما من هنا جاء اعتقاد العربي القديم، أن كلمته "مسمار في لوح"، أو أنه لن يخذل من يثق به.
وهذا يعني أننا نحن العرب، نقع في الطرف الأيمن high-context من "السياق المرتفع" للشعوب، وهي بحسب الترتيب: الصينيون، والأفارقة، والعرب، واليونانيون، والأمريكيون الجنوبيون، والإسبان. في حين أن الإيطاليين يحلون في المنتصف.
هذه الدراسة لا تعني مدحاً، ولكنها تشخّص جانباً من اختلافاتنا الثقافية. فالصينيون والأفارقة، مثلاً، أكثر "قليلاً" من العرب، اعتماداً على الثقة والنقاش الشفهي.
غير أن البون شاسع، بين الألمان والصنيين، والأمريكان والعرب، عندما يتعلق الأمر في التركيز على التعليمات الدقيقة والمدوّنة، والوضوح ومباشرتهم في رسائلهم المتبادلة. بعبارة أخرى الإنجليزي وابن عمه الأمريكي، أكثر مباشرة في الطرح والتعليمات والطلبات من العربي. وربما هذا ما يولّد صعوبة في التعامل في بداية الأمر، شعرنا بها جميعاً، نحن المبتعثين، ثم سرعان ما تكيّفنا،عندما عرفنا كيف نتعايش معهم.
ولذا من أبجديات التفاوض، ألّا ترسل أحداً إلى بلد لا يفهم ثقافته. وأكثر أخطائنا نحن العرب، تكمن في عدم فهم الطرف الآخر (العربي مثله) ناهيك بالأجنبي المختلف بثقافته وعاداته وتقاليده.
خلاصة القول، إن الاختلافات الثقافية نعمة، لأنها تسهم في تكاملنا في العمل. ومن الأهمية بمكان أن يعي كل قائد، طبيعة اختلافات الشعوب، وألّا يبخل على موظفيه بدورات متخصصة، وبرامج مطولة في العالم الغربي والشرقي، لكي يفهم هؤلاء جيداً، من يتعاملون معهم من ذوي الثقافات المختلفة، أملاً بتقليل النزاعات، وزيادة الإنتاجية، وسيادة أجواء مريحة من التفاهم المتبادل.