الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جميل الحجيلان: ودعتني باريس بالحفلات واستقبلني الخليج بالتحديات
عمل جميل بن إبراهيم الحجيلان سفيراً للسعودية في باريس، وترك وراءه إنجازات دبلوماسية رائعة، ومتطلعاً حينها لمهام كثيرة يحملها له المستقبل والخليج، والمنصب الذي تسلمه كأميناً عاماً لمجلس التعاون الخليجي.
عبد الإله بنكيران يكشف لـ«الرجل».. رأيه في تعدد الزوجات وقصة غنائه لأم كلثوم
والحجيلان يملك خبرة إدارية وقانونية وسياسية، تمتد لخمسة وأربعين عاماً، أمضاها في الخدمة العامة داخل السعودية وخارجها، تقلد خلالها عدداً من المناصب، منها وزير في أكثر من وزارة، وسفير في اكثر من عاصمة.
"الرجل" التقته في باريس والرياض، في حوار تحدث فيه رجل القانون والسياسة المخضرم عن تجاربه وآرائه وحياته.. بعيداً عن السياسة.
لو بدأنا مع جميل الحجيلان من أيام الصبا والدراسة، خاصة ايام القاهرة؛ فماذا تختزن الذاكرة؟
دخلت كلية الحقوق في جامعة فؤاد الاول عام 1946، دون توجيه من احد. والدي كان بسيطاً لا اطلاع لديه على هذا الأمر. ورفضت مديرية التعليم في مكة الحاقي بالبعثة السعودية في مصر،لاختياري دراسة القانون. بعد نجاحي وانتقالي إلى السنة الثانية بدرجات جيدة، عطفت عليّ مديرية التعليم وألحقتني بالبعثة السعودية. كنت طالباً خارجيا اتقاضى عشرة جنيهات وأربعين قرشاً مصرياً كل شهر. كانت مصر برخائها وحضارتها ومؤسساتها التعليمية، موطن الاحلام للطلبة السعوديين. وكانت الدولة كريمة في الانفاق على ابنائها المبتعثين. كنت اعشق دراسة القانون، رغم ما كان لديّ من ميول ادبية ظاهرة، وأهوى المواقف الخطابية العامة.
في شهر رمضان من عام 1366 هجرية (1946) كنت الطالب الوحيد الذي تجرّأ على ان يلقي في الاذاعة المصرية خطاباً على الهواء، في حفل الافطار الذي اقامه الملك فاروق في قصر عابدين، تكريماً للطلبة العرب المغتربين في مصر.
وفي امتحان التخرج في الكلية، قال لي الدكتور عبد الرزاق السنهوري، احد عمالقة القانون في مصر مازحاً: "لو كنت انا ابن سعود، لقطعت رأسك، لأنك درست القانون الوضعي وأنت عائد إلى بلد يطبق الشريعة الاسلامية".
كيف وجدت رواية الدكتور غازي القصيبي "شقة الحرية" عن الحياة السياسية في العاصمة المصرية، وأنت الذي عشت فيها مبكراً؟
قرات بعض فصول تلك الرواية، وهي عمل ادبي فيه توثيق وحرارة وإثارة، الا أنّني لم اعش التجربة التي عاشها الدكتور القصيبي، حين كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ذروة مجده وانبهار الملايين بشخصيته وشعاراته. وكان أبو سهيل واحداً من هؤلاء، كما روى ذلك بأسلوب ادبي بارع في قصته عن اول لقاء له بالرئيس عبد الناصر، مع وفد البحرين غداة انعقاد مؤتمر الادباء العرب في القاهرة.
عندما كنت طالباً في الحقوق بين اعوام 46- 50، كان عبد الناصر في ضمير الغيب، وكان ساسة مصر يزايدون على مقاومة الاحتلال الانجليزي، وكان الطلبة العرب مشغولين بقضية فلسطين وحربنا الاولى مع إسرائيل عام 1948، وكانت في مصر حرية صحافة وديمقراطية برلمانية نادرة في العالم العربي. ولم تفرز الاحداث عندئذ مثل هذا الطوفان العجيب من الانتماءات السياسية والعقائدية التي عرفتها اعوام الستينات في مصر وفي بعض البلاد العربية.
بعد أن أنهيت دراستك، ماذاعن اليوم الأول في الوظيفة؟
وصلت الى جدة في اليوم الاول من يناير/ كانون الاول 1951. وفي اليوم الثاني اصطحبني وكيل وزارة الخارجية السعودية آنذاك، المرحوم طاهر رضوان، لمقابلة الامير فيصل بن عبد العزيز، رحمه الله، وزير الخارجية آنذاك، للسلام عليه وتوقيع قرار تعييني. وكان راتبي حينها 385 ريالاً سعودياً. وكان عدد موظفي وزارة الخارجية في جدة- ديبلوماسيين واداريين- لا يزيد على الثلاثين، يعملون في مبنى صغير من طابقين في شارع المطار القديم في جدة، زال واختفى بعد التطور العمراني الهائل.
وضع غير صحي
قادك العمل الديبلوماسي لتمضي نحو عشرين عاماً، سفيراً للسعودية في فرنسا؛ هل تستطيع ان تحكم بعد هذه الفترة فيما اذا كان من الافضل للسفير ان يقضي فترة طويلة في بلد واحد أم لا؟
طول المدة يزيد من خبرة السفير، ويتيح له مصادر المعرفة المتعددة، ويصبح اكثر قدرة على تقييم الامور في البلد المعتمد لديه. الا ان بقاء السفير عشرين عاماً في مدينة رائعة الجمال، مثل باريس، تضجّ بالحيوية الفكرية والثقافية والفنية والعمل السياسي المشوّق المثير، امر غير صحي وغير مألوف، قد ينتهي احياناً بارتباط السفير بهذه المدينة ارتباطاً لا فكاك منه. كما ان الابناء يدفعون احياناً ثمن هذا الاغتراب، من اضطراب مفاهيمهم واضطراب دراستهم ايضاً.
إلا ان بقاء السفير طوال هذه المدة هو اعتراف وتقدير لأدائه، وثقة قيادة بلاده به. وعلى الرغم من اختراقنا المداخل المغلقة في المجتمع الفرنسي، واختلاطنا بهم وإقامة علاقات اجتماعية معهم، فإننا كنا نشعر دائماً، أنا وزوجتي، بأننا ننتمي الى عالم غير عالمهم، وأن معرفتنا بلغتهم وثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم، لم تكن كافية لإزالة الاحساس بالغربة ونحن نعيش في فرنسا ظروف الجاه والرخاء، وان الوطن الآمن المستقر، هو اغلى ما يسعد به الانسان.
بعيداً عن ازمة الخليج الاخيرة، فقد شغلت لفترة زمنية منصب عميد السفراء العرب، وهي فترة شهدت نشاطاً ديبلوماسياً عربياً مكثفاً هنا، في غياب دور ملحوظ لمكتب الجامعة العربية، فما العبرة التي خرجت بها من هذه التجربة؟
عندما آلت الي العمادة، بحكم الاقدمية، كان الانطباع السائد لدى اوساط السياسة والاعلام في فرنسا، ان مجلس السفراء العرب يعيش منغلقاً على نفسه، في عزلة تامة عن صانعي السياسة والرأي العام في فرنسا. وقد عنيت بهذا الامر وأوليته اهتمامي ونظمت حملة علاقات عامة للاجتماع إلى كبار رجال السياسة والاقتصاد والاعلام في فرنسا، على نحو لم تشهده باريس من قبل. وكان عملاً ناجحاً بكل المقاييس. ومكاتب الجامعة يقوم عليها سفراء اكفاء وقادرون، لا سيما مدير مكتب الجامعة في باريس، الصديق السفير محمد الطرابلسي.
إلا ان مكاتب الجامعة مقيدة بانعدام الامكانات المالية، واختلاف مواقف بعض الدول العربية من بعض القضايا القومية، وبعض الشخصيات الفرنسية ايضاً. والعبرة التي خرجت بها من هذه التجربة، هي ان مجلس السفراء العرب يستطيع اذا ما توافرت له عمادة واثقة، ذات مبادرات جريئة، متفتحة على الاوساط المحيطة بها، أن يرقى بمستوى ادائه، ويخدم قضايانا بالاتصال المباشر المستمر مع اهل العقد والحل في فرنسا.
سفير وثلاثة رؤساء
خلال فترة عملك الطويل في باريس، تعاملت مع ثلاثة رؤساء جمهوريات فرنسيين، وتسعة رؤساء حكومات، وعدد مماثل من وزراء الخارجية. فهل كان التعامل مع كل هؤلاء سهلاً؟ وهل سياسة دولة كبرى مثل فرنسا، تتغير بتغير الانظمة السياسية وكبار المسؤولين السياسيين والحكوميين؟
فرنسا دولة ديموقراطية تحكمها مؤسسات دستورية عريقة مستقرة. يموت الساسة فيها وتبقى تلك المؤسسات حية. وعلاقة فرنسا بغيرها من الدول، لا تتغير باختلاف عهود الحكم فيها. مصالح الشعب الفرنسي هي التي تحكم تلك العلاقات. فلم تتعرض، مثلاً، علاقة السعودية بفرنسا لأي تغيير، بعد وصول الاشتراكيين الى الحكم. فهذا شأن داخلي لا علاقة لنا به. وقد يقترن احيانا مجيء بعض الحكام الجدد الى السلطة، في فرنسا، برؤى وتقديرات وتحليلات غير دقيقة لدى هؤلاء الحكام، ازاء بلد او نظام حكم معين، الا انه سرعان ما تتبدل الامور والمواقف على ضوء الحقائق السياسية والاقتصادية التي تفرض نفسها، وتصبح، كما ذكرت،مصالح فرنسا العامل الحاسم في تحديد علاقتها مع الآخرين.
ما الذي تعلمته في فرنسا؟
ان الانسان اغلى شيء في الوجود، وان الوقت اغلى من الذهب، وان اداء الواجب يتمّ في صمت، وأن امن الدولة حرمة لا تمسّ، وأن القانون سيد الجميع.
بعد نحو عشرين سنة من العمل الديبلوماسي في فرنسا، بأي شعور تركت باريس؟ وكيف ودعتها؟
السنوات التي قضيتها انا وزوجتي في باريس، كانت حافلة بالعمل السياسي، مع معايشة متواصلة للحياة الفكرية والثقافية والفنية، لذلك اعتراني شعور اشبه بالاغتراب وأنا اودع باريس. ولم يخفف من قوة هذا الشعور، الا قناعتي وفرحتي بما انا مقبل عليه من عودتي الى وطني العزيز وبدء عمل جديد.
أجرى لك زملاؤك حفلات وداع كثيرة قبل مغادرتك باريس؛ كيف كانت هذه الاجواء؟ وما شعورك حينها؟
كانت هذه الحفلات كثيرة ومرهقة، لذلك اكتفينا بما هو ضروري منها. وكان من بين الدعوات التي قبلتها دعوة وزيري الداخلية والخارجية، والامين العام لوزارة الخارجية، ومجلس السفراء العرب وعقيلاتهم. وقد تُوّجت هذه الحفلات بدعوة الغداء التي اقامها لي وحرمي وأبنائي، الرئيس جاك شيراك وعقيلته في قصر الاليزيه، ومنحني خلالها وساماً استثنائياً رفيعاً، لا يمنح عادة للسفراء.
ما رؤيتك لمستقبل العلاقات السعودية- الفرنسية والعربية الأوروبية، خصوصاً في ظل حكم شيراك؟
الرئيس جاك شيراك محبّ للعرب، وريث للفكر الديغولي الذي حقق استقلال الجزائر وعزز علاقة فرنسا بالعالم العربي.
والرئيس شيراك تربطه بخادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز وبالقادة السعوديين علاقات الصداقة الطيبة، كما هو الامر بالنسبة لكثير من رؤساء الدول العربية. الا ان الرئيس شيراك ينظر الى مصالح بلاده ويمنحها الاولوية، وهو يزن علاقة فرنسا بالعالم العربي. ولن يضحي مثلاً بعلاقة فرنسا بالدول الاوروبية، من اجل روابط مجاملات خالية المضمون والمصالح مع الدول العربية. ولأن السياسة مصالح متبادلة، فإن الرئيس شيراك، رغم تعاطفه مع العالم العربي، يضع هذه الحقيقة في حسبانه، وهو يتعامل مع الدول العربية وقادتها ايضاً.
بوصفك مسؤولاًإعلامياً سابقاً، كيف ترى الاعلام السعودي اليوم داخلياً و خارجياً؟
خارجيا لم ينجح الاعلام السعودي في نقل رسالة السعودية وضخامة انجازاتها الى الرأي العام الغربي.
ماذا يفعل ابنك عماد الآن؟
الابناء عماد، وفيصل، مهندسان، ووليد، اقتصاد وإدارة عامة، يعملون معاً في شركة "الحجيلان للمشاريع الهندسية".
لقد عرفنا حرمكم السيدة كرم الحجيلان، امرأة نشطة في العمل الانساني، خصوصا ما يتعلق بمساعدة اللاجئين المسلمين من البوسنة في فرنسا. كما كان لها حضور فاعل في اوساط السيدات العربيات والفرنسيات في باريس، لأنها لم تكن تكتفي بحضور الحفلات الرسمية. فما الدور الذي لعبته ام عماد؟ وكيف آزرتك في الاوقات الحرجة التي كان يجب فيها العمل ليلاً ونهاراً، من اجل اجتياز العقبات؟
ما اشرت اليه هو واقع وصحيح؛ فليس من طبيعة زوجتي ان تعنى بالامور السطحية. وهي صاحبة ارادة، ولماحة لما هو مفيد من الاعمال الانسانية. ولم تترك عملاً فيه تخفيف من معاناة بعض العرب والمسلمين في فرنسا، الا وقامت به في حدود استطاعتها، والامكانات المتاحة لها. لقد كانت بالنسبة لي، خلال عشرين عاماً من العمل في باريس، سنداً مؤازراًتشاركني الرأي فيما يعترضني من امور، باستثناء ما تعلق بعملي السياسي. ولأنها سيدة رزينة، هادئة، مثقفة، شاركتني حمل العبء على خير ما تحمله زوجة سفير عربي مسلم، في عاصمة دولية مهمة مثل باريس.
واذكر على نحو خاص، انها كانت اثناء ازمة الخليج، تسجل كل مقابلاتي التلفزيونية والاذاعية والصحافية، في وسائل الاعلام الفرنسية. وعندما اعود الى المنزل نراجع سويابموضوعية هادئة مضمون تلك المقابلات. ولأنها زوجتي، وليس بيني وبينها حدود، ولأنها مطلعة على الاوضاع السياسية والاعلامية في فرنسا، فقد كانت تلاحظ لي، وتعلق، وتبدي رأيها في تلك المقابلات، على نحو لا يمكن ان يقوله الآخرون.
عشت في باريس 20 عاماً؛ هل ترى ان هناك اختلافاً بين الحياة في الخليج وباريس؟
اسألوا الاخوة ابناء الخليج الذين يترددون على باريس ليحدثوكم عن اختلاف الحياة. أما أنا فقد رميت العشرين عاما التي عشتها في باريس وراء ظهري، وعدت كما ذهبت، وكما كنت عليه دائماً، سعودياً خليجياً معتزاً بعروبتي وإسلامي.
كيف ترى وظيفتك الآن،أميناً عاماً لمجلس التعاون لدول الخليج العربية؟
اراها ثقة كبيرة شرفني بها خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، بترشيحي لهذا المنصب المهم الرفيع، واعتزازاً ما بعده اعتزاز بترحيب اصحاب الجلالة والسمو قادة دول مجلس التعاون، ومساندتهم، وصدور قرارهم بتعييني. كما ارى في هذه الثقة الكبيرة عبئاً ثقيلاًأسأل الله ان يعينني عليه.
لك كتابات مهمة في الستينات ظهرت في كتاب؛ كيف ترى هذا الكتاب الآن؟ وماذا ترى في سطوره لو اعدت قراءتها على طريقة زيارة جديدة للتاريخ؟
في اعوام الستينات كانت المملكة العربية السعودية، بقيادة الملك الشهيد فيصل بن عبد العزيز- وكان خادم الحرمين الشريفين،آنذاك، وزيراً للداخلية ونائباً ثانياً لرئيس مجلس الوزراء، تقف بصلابة منقطعة النظير امام عدوانية اليسار العربي عليها، ودورانه في فلك الاتحاد السوفييتي دوراناً لم يكن يخدم الا مصالح موسكو.
وكان الملك فيصل، رحمه الله، يرى رؤية الواثق انحدار الامور في العالم العربي الى الهاوية، وعجزنا عن ايقافه. وكل ما ارتفع منا صوت جريء يدعو الى حوار هادئ، وصفونا بالرجعيين والضلوع مع الاستعمار. وتلك المقالات كانت عرضاً موضوعياً لسياسة بلادنا، ودفاعاً عن هذه السياسة، وتصدياً لشعارات التضليل التي كانت تستهين بكل القادرين على فهم حقائق الامور. كانت مقالات تتحدث عن الثوابت في سياسة السعودية، ومكونات هذه السياسة في الداخل والخارج، الحوار الهادئ، نبذ الشعارات المضللة، مقاومة السطو على الحكومات الشرعية على ظهور الدبابات وفي ليل حالك، الصدق والشجاعة في المفاتحة، النيّات النزيهة، معرفة ظروف الاخرينوتقديرها، البعد عن المزايدات السياسية المخادعة عن قضية فلسطين. ولم ترد في تلك المقالات كلمة نابية واحدة، فهذا امر غير وارد في سياسة بلادي ولا في خلق القائمين عليها.
وحين اعود بعد ثلاثين عاما لقراءة هذه المقالات، ارى ان كل ما جاء فيها كان نبضاً صادقاً معبراً عن الخوف من سياسات عربية خاطئة ومغامرات رعناء ادت بنا الى سوء المصير.