نوفمبر شهر اللطف
نوفمبر شهر اللطف
مازلت أتذكر جيداً قائد السيارة في أمريكا الذي كان أمامنا، إذ فاجأنا بدفع رسم استخدام الخط السريع Toll نيابة عنا، وما أن ارتفع حاجز المرور حتى سارعنا إلى شكره على حسن صنيعه.
تذكرت هذا الموقف اللطيف، حينما رأيت استعداد دول أجنبية للاحتفال باليوم العالمي للطف في الثالث عشر من الشهر الجاري (نوفمبر).
نحن العرب أولى بالاحتفال بيوم اللطف العالمي من الغربيين، لنشيع فضيلة اللطف على مظاهر الفظاظة في التعامل، لاسيّما أن هذه المناسبات ليست احتفالاً، بقدر ما هي وقفة تدبر وتذكير بفضائل منسية. فكم من قصة وقصيدة في ديوان العرب هجرناها، فطواها النسيان، فحرمنا أجيالاً من تدبّر معانيها العميقة! وكم من جد أو جدة يحملان في ذاكرتهما ما لا حصر له من قصص الرعيل الأول التي لم ينقلها أبناؤهم إلى الأحفاد، فشحّت ذاكرتنا السمعية من تلك العبر!
ولحسن الحظ لا تحتاج الشعوب إلى بذل مبالغ طائلة لإظهار أبهى صور اللطافة. فكم من شخص باغت طاولة مجاورة بأن دفع عنهم فاتورة العشاء في مطعم شعبي أو مقهى، فكسب ودّهم واحترامهم! وكم من مدير عام قرر أن ينزل من "برجه العاجي" ليجلس دورياً مع أصغر موظفي شركته، ليمنحهم آذاناً صاغية، فأدخل في قلوبهم السرور. وهذا السرور لا يأتي بالاستعراض الكلامي من المدير بل بحسن إنصاته بكل جوارحه.
والعكس صحيح، فكم من تعيس اختار الفظاظة على اللطف، فدفع الثمن غالياً. وقد رأيت بعيني أكثر من راكب يسحبهم رجال أمن المطار سحباً من داخل الطائرة، لأنهم كانوا وقحين وعدوانيين مع الركاب وطاقم الضيافة! وكم من طائرة هبطت من عنان السماء لتنزل راكباً فظّاً نسي أو تناسى أنه كان يمكن أن يبلغ باللطف ما لا يبلغه بالفظاظة.
والحق أن اللطف يشيع أجواء من المودة والوئام، وينبّهك إلى أن هناك من يهمه أمرك، أو يمشي بحاجتك، أو يتبسم في وجهك، أو يفرج عنك كربة، أو يحترم رأيك، وإذا ما أراد أن يختلف لجأ بلطف إلى النقد البنّاء الذي يدعم العلاقات ولا يهدمها.
ومن أجمل العبارات التي قرأتها عن اللطف، هي أن: سلوكنا اللطيف يدفع آخرين إلى فعل الخير، حتى يصل تأثيره إلى نحو أربعة أشخاص على الأقل. وهذه العبارة تسندها أبحاث قام بها الباحث «برهن فاولر»، بحسب تقرير نشرته صحيفة «الجريدة» الكويتية.
واللطف سلوك معدٍ ينتشر أريجه في كل أرجاء المكان. وقد يكون بداية صداقة جديدة. ولحسن الحظ فإن اللطف يمكن اكتسابه بالمران والتعود، مثلما يحدث في عالم الفندقة ومبيعات التجزئة التي يتحول فيها الفرد من عبوس إلى بشوش ينتقي كلماته بحذر وذكاء. ولله الحمد والمنّة، الذي لم يجعل للكلام اللطيف قيمة مادية وإلا لتضاعف بخل البعض في إنفاقه. فتستطيع بنظرات صادقة تتابع فيها من يتحدث بحرقة أو بألم أو بسعادة غامرة، أن تدخل البهجة في قلبه بحسن اهتمامك وتفاعلك. وهذه المعاني كلها تطرق إليها الرائع ديل كارنيغي، في كتابه الخالد «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس؟» الذي ما زال من أكثر الكتب مبيعاً حتى بعد وفاته.
ومن هذا المنبر أدعو كل المسؤولين العرب، إلى أن يحتفلوا بيوم اللطف في بلدانهم ووزاراتهم وشركاتهم، ليشيعوا ثقافة اللطف والسلوك المهذب، فقد أرهقنا العنف اللفظي والبدني، حتى صار العرب في أفلام الغربيين أيقونة للعنف والتخريب. نريد بهذا الاحتفال أن نذكّر أنفسنا بقوة أن نفعل شيئاً لطيفاً، ولو ليوم واحد.
فاللين أو اللطف فضيلة نرقق بها قلوب من حولنا؛ فكم من فظ فرّ منه القاضي والداني! ولذا فإن الله عز وجل اللطيف الخبير بعباده "وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ".