"اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري".. لماذا يجرح بعض الناس أنفسهم؟!
تتفاوت ردود أفعال الناس تحت وطأة ضغوطات الحياة التي لا تتوقّف، فمنهم الصلب الذي لا يهتزّ مهما ألقت عليه الحياة بثقلها، ومنهم من ينهار سريعًا من التوتر الذي يتعرَّض له، لدرجة أن يؤذي أو يجرح نفسه!
وهو لا يجرح نفسه رغبةً في الانتحار، وإنّما لألمٍ نفسي أو مشاعر سلبية استولت عليه، فكان سبيل تنفيث ذلك عبر إيذاء نفسه مباشرةً، فيما يُعرَف بـ"اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري".
ومؤخرًا ظهر "بيب جوارديولا" المدير الفني لنادي "مانشستر سيتي" الإنجليزي، بجروح وخدوش في الوجه والرأس، بعد انتهاء مباراة فريقه أمام "فينورد" الهولندي، التي انتهت بالتعادل (3 - 3) في الجولة الخامسة من مرحلة الدوري ببطولة دوري أبطال أوروبا 2024/2025.
وقال "جوارديولا" في تصريحات لشبكة "أمازون برايم"، بشأن الجروح والخدوش في وجهه: "لقد خدشتها بإصبعي، أريد أن أوْذي نفسي"!
فلماذا قد يؤذي بعض الناس أنفسهم؟ وكيف يمكن التعامل مع من يؤذي نفسه ودعمه نفسيًّا لمنع ذلك؟
ما هو اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري؟
"اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري Nonsuicidal self-injury disorder"، يُعرف بأنه تعمُّد إيذاء النفس، للتأقلم مع الألم أو التخلص من المشاعر السلبية أو للتعبير عن الغضب المكبوت من الشخص تجاه نفسه، أو ربّما التعبير عن كونه في محنة أو بحاجةٍ إلى دعم الآخرين.
وإيذاء النفس ليس له صورة واحدة، لكن من أبرز أمثلته، حسب "Cleveland Clinic":
- الجرح بأشياء حادة لاختراق الجلد أو إصابته.
- الضرب بأشياء صلبة، مثل لكم الجدار، ما قد يؤدي إلى إصابات بالطبع.
- الحرق بشيء ساخن، مثل السجائر أو الكبريت، أو حتى بمواد كيميائية، مثل منتجات التنظيف المنزلية.
- الخدش أو الفرك الذي يُؤدِّي إلى تلف البشرة.
لماذا يلجأ بعض الناس إلى إيذاء أنفسهم؟
بغض النظر عن طريقة أذيّة النفس، فإنّ بعض الناس يفعلون ذلك للتنفيث عن آلامهم، فقد أفاد معظم الأشخاص الذين جرحوا أنفسهم أنّهم يفعلون ذلك عندما يمرُّون بضائقة عاطفية لا تُطاق، حسب "Medicalnewstoday"، فهم لا يجرحون أنفسهم لأنّهم يريدون الانتحار أو جذب الانتباه، وإنّما للضائقة النفسية التي حلّت بهم.
فالألم الجسدي الناجِم عن الجرح، يُعدّ منفذًا للألم النفسي، مما يجعل المرء يشعر بأنّ الألم النفسي أكثر احتمالًا وأخف وطأة؛ إذ يشعر بعض الناس بالتحسّن -نفسيًّا- بعد الجرح، وذلك رغم أنّهم قد يشعرون بالندم لاحقًا.
هل يمكن أن يتحوّل إيذاء النفس إلى إدمان؟
قد يبدو جرح المرء نفسه وكأنّه إدمان؛ إذ يشعر برغبة عارمة في إيذاء نفسه، خاصةً في أوقات الألم النفسي أو العاطفي الذي لا يُطاق بالنسبة له.
وبعض الأفراد يشعرون براحة مؤقتة عندما يفعلون ذلك، وربّما يُقرِّرون عدم القيام بهذه التجربة القاسية مرة أخرى، ومع ذلك، كُلّما طالت فترة عدم جرحهم لأنفسهم -مع وجود ألم عاطفي أو نفسي- يزداد توترهم، وتزداد رغبتهم في إيذاء أنفسهم.
اقرأ أيضًا: اضطرابات الشخصية.. الأنواع والأعراض والمضاعفات والعلاج
من الأكثر عُرضةً لأن يؤذوا أنفسهم؟
قد تزيد الاضطرابات النفسية خطر إيذاء النفس، مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات الشخصية أو غيرها، كما أن هناك بعض العوامل التي قد تزيد خطر فعل ذلك أيضًا، مثل:
- الصدمة: يُعدّ إيذاء النفس أكثر شيوعًا لدى الأشخاص الذين سبق أن تعرّضوا لصدمة أو صدمات في حياتهم.
- العُمر: عادةً ما تبدأ سلوكيات إيذاء النفس بين سن 12 - 14 سنة، وإن كان من الممكن أن تبدأ قبل ذلك أيضًا، وغالبًا ما يستمر الأشخاص الذين يؤذون أنفسهم في القيام بذلك لسنوات لاحقة.
- العزلة الاجتماعية: قد يميل الأشخاص الذين يشعرون بعُزلة اجتماعية أو أنّهم غير مقبولين من الآخرين، إلى إيذاء أنفسهم، خاصةً الأطفال والمراهقين الذين يُعانُون تلك العزلة أو التنمّر.
- الاضطرابات النفسية: حسب "Cleveland Clinic" فإن الاضطرابات النفسية قد تزيد خطر إيذاء النفس، مثل اضطرابات النوم أو اضطرابات الأكل، أو اضطراب الوسواس القهري، أو غير ذلك.
ما مظاهر اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري؟
يحاول من يؤذي نفسه إخفاء آثار ذلك عمّن حوله، فمثلاً قد يرتدي أكمامًا طويلة لتغطية آثار الجروح، حتى لو كان الجو حارًا بالخارج، أو قد يحكي قصصًا تجعل الإصابة على أنّها حادث، لم يفتعله هو لنفسه، ومع ذلك، فهناك بعض العلامات الواضحة الدالّة على إيذاء النفس، مثل:
- الندوب أو قشرة الجرح في شكلٍ مُعيّن أو مجموعة.
- حروق متعددة بنفس الحجم أو الشكل.
- تكرر الحوادث التي تؤدي إلى خدوش جديدة أو علامات عض أو كدماتٍ أو تورّم.
- صعوبة السيطرة على بعض الرغبات، مثل العجز عن التوقّف عن خدش منطقة من الجلد.
- الحاجة إلى الذهاب إلى غرفة الطوارئ أو زيارة الطبيب بسبب إصابات غير عادية في بعض الأحيان.
ومن أهم مناطق الجسم التي قد تتضرَّر بفعل إيذاء الشخص لنفسه:
- الذراعان، وخاصةً الساعدين.
- المِعصمَان.
- الجزء الأمامي من الفخذ.
- البطن.
وقد تكون إصابات إيذاء النفس في مناطق الجسم الأخرى أقل شيوعًا، لكنّها محتملة الحدوث أيضًا.
ما مخاطر اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري؟
قد يجد بعض الناس راحتهم النفسية مع إيذاء أنفسهم، للتخلّص من ألمٍ نفسيٍ ما، لكن هذا المكسب قد يقابِله مخاطر قصيرة أو طويلة الأمد:
المخاطر قصيرة الأمد
قد يؤدي إيذاء النفس إلى مشكلات أخرى في بعض الأحيان، مثل:
- مضاعفات صحية: فقد يؤدي إلى الإصابة بالعدوى أو تلف الأعصاب أو الندب الشديد، وفي بعض الأحيان قد تحدث إصابات خطيرة أو حتى يُؤدِّي إيذاء النفس إلى الوفاة.
- مشكلات اجتماعية: قد يؤثر إيذاء النفس في علاقة المرء بعائلته أو أصدقائه، كما قد يؤثر أيضًا في شعوره في البيئات الاجتماعية، مثل العمل أو الجامعة.
المخاطر طويلة الأمد
من ناحيةٍ أخرى، فقد يُؤدِّي إيذاء النفس إلى مشكلات طويلة الأمد، تتضمّن:
- تدهور الصحة النفسية: ربّما نجم إيذاء النفس عن توترٍ أو ضغطٍ نفسي ابتداءً، لكنّه قد يؤدي لاحقًا إلى الشعور بالذنب أو الندم، كما قد يشعر المرء بالقلق بشأن ملاحظة الآخرين لإصاباته، فيبذل قصارى جهده لإخفاء الإصابات، وكلّ ذلك يُفاقِم مشكلات الصحة النفسية.
- إصابات شديدة الخطورة: غالبًا ما تتصاعد سلوكيات إيذاء النفس، فقد يُكرِّر الإنسان إيذاء نفسه، أو يُصبِح إيذاؤه لنفسه أكثر حدة.
- خطر الانتحار: لا ينطوي إيذاء النفس عادةً على نية انتحار، لكن فرصة الانتحار أعلى بكثير لدى الأشخاص الذين يؤذون أنفسهم، مقارنةً بغيرهم.
اقرأ أيضًا: العلاج بالواقع الافتراضي.. حل واعد لاضطرابات الصحة النفسية
كيف يمكن التعامل مع إيذاء النفس والتوقف عنه؟
قد تساعد بعض أشكال العلاج النفسي على منع إيذاء النفس والتوقّف عن فعل ذلك، منها:
- العلاج المعرفي السلوكي: يعتمد ذلك العلاج على مساعدة الإنسان على تغيير طريقة استجابته التلقائية للأفكار، بالإضافة إلى فكّ الارتباط بين أنماط التفكير والسلوك والمزاج السلبية، بما يُساعِد في النهاية على تجنّب إيذاء النفس مع التعرّض لألمٍ عاطفي أو نفسي.
- العلاج السلوكي الجدلي: يركِّز هذا العلاج على تحديد ومحاولة تغيير أنماط التفكير السلبية وتعزيز التغييرات الإيجابية، بالإضافة إلى مساعدة المرء على إيجاد طرق أفضل للاستجابة للتوتر، بدلًا من إيذاء النفس.
- العلاج الجماعي لتنظيم المشاعر: يتضمّن هذا اللون من العلاج تعليم المُصاب كيفية زيادة وعيه بمشاعره، وتزويده بالمهارات اللازمة للتعامل مع هذه المشاعر، كما يُساعِد ذلك العلاج أيضًا على قبول المشاعر السلبية؛ كونها جزءًا من الحياة، ومِنْ ثَمّ عدم الاستجابة لها بشِدّة أو الاندفاع المُبالَغ فيه.
أمّا الأدوية، فلم يُوافَق على أي دواءٍ بعينه لعلاج اضطراب إيذاء النفس غير الانتحاري، ومع ذلك فإنّ بعض الأدوية، مثل: "نالتريكسون"، وبعض مضادات الذهان من الجيل الثاني، كانت فعالة في بعض الحالات، ولكن لا ينصح باستخدام أي منها دون الرجوع إلى الطبيب المختص.
كذلك قد تكون هناك حاجة إلى أدوية لعلاج الاضطرابات النفسية الأخرى، التي قد تُصاحِب إيذاء النفس، مثل الاكتئاب أو القلق أو اضطرابات الأكل، ويختلف الدواء الموصوف، حسب الاضطراب النفسي المُصاحِب.
كيف تتعامل مع من يؤذي نفسه باستمرار وتدعم نفسيته؟
قد يمرّ أحد أحبائك بأحداثٍ عصيبة تعصِف بمشاعره، فيلجأ إلى إيذاء نفسه تلقائيًا، وبالتأكيد لن تقف تشاهده يفعل ذلك، فليس الهدف التعامل معه في تلك اللحظة فقط، بل كيف يمكن التعامل معه بما يمنع حدوث ذلك وتكراره؟
بدايةً لن يساعد إلقاء العار أو اللوم أو جعل المُصاب يشعر بالذنب في منعه من إيذاء نفسه، بل قد يزيد الطين بلّة، لأنّ المشاعر المؤلمة تزداد في داخله، ومِنْ ثَمّ فقد يؤذي نفسه بشِدّة أكبر.
وإنّما يُفضّل بدلًا من ذلك:
- سؤاله عن مشاعره.
- الاستماع إليه دون حُكمٍ عليه.
- عرض مساعدته في العثور على علاجٍ مناسب.
- اقتراح طرق أخرى له للتعامل مع المشاعر الشديدة.