"الحوسبة المكانية".. وسيلتك لدمج العالم الافتراضي في الواقع
هل تخيلت يومًا أن تتفاعل مع العالم الرقمي وعناصره المختلفة كأنه واقعك الحقيقيّ؟ أن تُحوّل غرفتك أو البيئة الواقعية الموجود فيها إلى بيئة افتراضية تفاعلية؟ إذا تحقق هذا الأمر ستستطيع -على سبيل المثال- أن تُسافر إلى أي مكانٍ بالعالم دون أن تُحرك ساكنًا؛ ستستطيع أن تجلب غابة استوائية بأشجارها ونباتاتها إلى حيث تجلس، والأهم من ذلك أنك ستتمكن من التفاعل مع عناصرها كما لو كنت في هذه الغابة الاستوائية بالفعل، هذا يا سادة ما يُسمى بالحوسبة المكانية "Spatial computing"، وإليكم ما تودون معرفته عنها.
الحوسبة المكانية: مدخل سريع
ببساطة شديدة يمكننا أن نُعرّف الحوسبة المكانية "Spatial computing" على أنها التكامل بين العالم الرقمي وعالمنا المادي، بحيث يمكن التفاعل بين مكونات العالمين، وكأنهما شيء واحد. بصورة أخرى: تظهر مكونات العالم الرقمي بشكلٍ ثلاثي الأبعاد في العالم الحقيقي، ويمكن لمسها أو التفاعل معها بطريقة أو بأخرى حسب نوع التقنية المُستَخدمة.
لكي يتحقق مفهوم الحوسبة المكانية، يجب أن تتوافر عدة عناصر مثل إنترنت الأشياء IoT، الواقع المعزز AR، والواقع الافتراضي VR، فضلاً عن عناصر أخرى.
شركات كثيرة دخلت إلى هذا المجال وأصبحت تُقدم منتجات قادرة على تحقيق هذا المفهوم ولو جزئيًّا؛ شركة Meta، وMicrosoft، وApple، وغيرها ينطبق عليها هذا الحديث، ولاحقًا سنتحدث -سريعًا- عن أفضل أداة تقنية تُحقق الحوسبة المكانية في السوق حاليًا.
صُكَّ مُصطلح الحوسبة المكانية "Spatial computing" على يد الباحث سايمون جرينولد Simon Greenwold "من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT" في عام 2003، وذلك عندما تحدث عن أهميته في أطروحة الماجستير التي تحمل الاسم نفسه، والتي أفادت بأن الحوسبة المكانية هي "أداة أساسية لجعل الآلات شركاء متكاملين لنا في العمل واللعب".
كيف تعمل الحوسبة المكانية
بدلاً من التفاعل مع أشياء ثنائية الأبعاد من وراء شاشات هواتفنا وحواسيبنا، تخيل أن تنقل هذه الأشياء إلى العالم الحقيقي بشكل ثلاثي الأبعاد يمكن سبر أغواره وزواياه. من أجل تحقيق هذا الأمر، سنحتاج إلى أن نعود إلى المكونات الواجب توافرها، ولكن هذه المرة سنتحدث بشكلٍ أكثر تفصيلاً لنفهم آلية عمل الحوسبة المكانية.
- المستشعرات: مثل الكاميرات، ومستشعر الضوء والتقارب LiDAR، ومستشعرات العُمق depth sensors، وغيرها من المستشعرات اللازمة لجمع المعلومات الكافية حول البيئة الواقعية.
- قوة معالجة عالية: وهذا يكون بالمعالج أو "البروسيسور" الموجود بالتقنيات المختلفة التي تكون بمثابة بوابتنا لكسر الحاجز بين الواقع والخيال. الهدف من وجود هذا العنصر هو معالجة البيانات والتعرف على الأشياء وقياس الحركة وفعل كل شيء يتعلق بهذه الأمور.
- السوفتوير والخوارزميات: قبل العنصرين السابقين تأتي الأداة نفسها القادرة على إذابة الفوارق بين العالمين كما ذكرنا؛ مثل نظارة "Meta Quest 3" من شركة "Meta"، فضلاً عن الخوارزميات التي تُفسّر البيانات.
- وسيلة التفاعل: أخيرًا وليس آخرًا تأتي وسيلة التفاعل أو التحكم، التي استطاعت "Apple" أن تُغير من مفهومها كما سنرى بعد قليل في المثال التطبيقي.
كانت تلك المكونات الأساسية التي لا يمكن تحقيق مفهوم الحوسبة المكانية بدونها، ولكن ما الذي يحدث بالضبط؟ سنخبرك باقتضاب:
1. تجميع البيانات: يبدأ السحر بتجميع البيانات من مُحيط المستخدمين عن طريق ما يُسمى بـ"تقنيات المسح المكاني Spatial mapping techniques"، ومنها تقنية المسح التصويري "photogrammetry" ونماذج الليدار "Lidar" والرادار "radar".
2. تحليل البيانات: بعد جمع البيانات تأتي مرحلة تحليلها عن طريق آليات مُتخصصة مثل الرؤية الحاسوبية أو رؤية الآلة "machine vision"، وذلك بمساعدة الذكاء الاصطناعي الذي يلعب دورًا محوريًا في التعرف على الأشياء وتمييز حركتها وتفاعلاتها مع الأشياء المحيطة.
3. التفاعل مع العناصر الافتراضية: في هذه المرحلة الأخيرة والشّائقة يحدث التفاعل الحقيقي مع العناصر الافتراضية باستخدام وسائل التفاعل المختلفة مثل أدوات التحكم المادية، أو مستشعرات الحركة، أو التعرف على الصوت وغيرها.
اقرأ أيضًا: هل تستحق نظارات "Apple Vision Pro" الشراء؟
ما فائدة الحوسبة المكانية؟
تخيل ميكانيكيًّا يريد إصلاح موتور سيارة ما، أو طبيبًا جرّاحًا مُقبلًا على إجراء عملية قلب مفتوح لمريض. في السيناريو الأول وباستخدام الحوسبة المكانية، يمكن للشخص أن يأتي بشكلِ المحرك من الإنترنت ويعرضه أمامه في الهواء بشكل ثلاثي الأبعاد حتى يفحص مكوناته بدقة وهذا سيقلل من وقت الإصلاح ويزيد من الكفاءة في آن واحد.
نفس الشيء ينطبق على الجراح، إذ سيستحضر نموذجًا ثلاثي الأبعاد لشكل القلب، يُحاكي قلب المريض بعينه، يُحدد أفضل مسار للجراحة ويُحاكي العملية قبل أن يشرع بها، وهذا بالتبعية سيزيد من فرص النجاح ويقلل من المخاطر.
وبعيدًا عن المثالين المذكورين، هناك تطبيقات عدة للحوسبة المكانية، وفي أكثر من مجال من بينها:
1. على مستوى الصناعة: نرى أن السيارات ذاتية القيادة تُقدم مثالاً ممتازًا على الحوسبة المكانية، إذ تُعَد استجابتها لمثيرات العالم الحقيقي تجسيدًا ممتازًا على التفاعل بين الآلة والواقع. الشيء نفسه ينطبق على مستوى العمليات التصنيعية "Manufacturing processes" نفسها، والتي تُمكن عمال المصانع من التفاعل مع الآلات وإنجاز المهام بوتيرة أسرع.
2. على مستوى القطاع الصحي: كما رأينا في مثال الطبيب الجراح، وكما استطاعت جامعة ألبيرتا أن تفعل عندما طورت مشروعًا يُسمى "ProjectDR" باستخدام الواقع المعزز؛ هذا المشروع يُغنينا عن فكرة أشعة X ويعرض المشكلة الصحية التي يواجهها المرضى بطريقة مبتكرة ثلاثية الأبعاد.
3. على مستوى التعليم: يُمكن تحسين العملية ونقلها إلى مرحلة متطورة ومختلفة تمامًا عما نراه حاليًا بفضل الحوسبة المكانية، إذ ستعالج أكثر المشاكل انتشارًا وهي مشكلة الانغماس والتطبيق، وسيستطيع الطالب أن يُطبق ما يتعلمه على أرض الواقع وأمام عينه بدلاً من التلقين النظري.
4. على مستوى الترفيه والألعاب: أطلق العنان لخيالك وتصور نفسك وأنت تلعب لعبة مثل "Fruit Ninja"، وبدلاً من تمرير إصبعك على الشاشة لتقطيع الفواكه، تُمررها في الهواء وتقطع الفاكهة الموجودة أمام عينيك كأنها حقيقية. المفاجأة أن هذا المثال موجود بالفعل ويمكن لأي شخصٍ أن يختبره بنفسه، وهذا يأخذنا إلى التطبيق العملي الأمثل والصيحة التي لا ينفك الجميع عن التحدث بشأنها.
اقرأ أيضًا: ما هي فوائد الخواتم الذكية؟ وهل تستحق الشراء؟
Apple Vision Pro.. التطبيق الأمثل للحوسبة المكانية
لعل أحدث ما توصلنا إليه بشأن جعل المستخدمين العاديين يخوضون تجربة الحوسبة المكانية هو نظارات الـ Vision Pro من شركة Apple. بعيدًا عن سعرها الباهظ المُقدَّر بـ 3500 دولار، فهذه النظارات قادرة على تحويل البيئات والعناصر الافتراضية إلى أجزاءٍ أساسية من الواقع المادي. أتذكر مثال لعبة Fruit Ninja؟ تستطيع هذه النظارات الذكية أن تنفذه بسهولة، وأضافت "Apple" المزيد من الألعاب وتعد بألعاب أكثر في المستقبل.
هناك ميزة بهذه النظارات تتيح للمستخدمين خوض تجربة مثيرة ومخيفة في الوقت نفسه، إذ يظهر أمام مُرتدي النظارة ديناصور افتراضي، ولكن تفاعلي، تشعر كأنه موجود معك بالغرفة، هذا ما يُعرَف بالحوسبة المكانية. علاوة على ذلك، يمكن للمستخدمين أن يتحكموا في النظارة باستخدام إيماءات اليدين وحركات العينين والصوت مثلما نرى في أفلام الخيال العلمي.
ولأننا تحدثنا عن الـ Apple Vision Pro في مقالٍ مُنفصل من قبل، فلا داعي للإسهاب في مميزاتها الآن. وجديرٌ بالذكر أن هذه النظارات ليست المثال الوحيد بالطبع، إذ توجد بدائل أخرى قوية كنا قد تحدثنا عنها أيضًا، ومنها الـ Meta Quest 3 مثلاً؛ المُقدمة من الشركة الأم لـ Facebook "شركة Meta" والتي تأتي بسعرٍ أرخص بكثير من الـ Vision Pro، حوالي 500 دولار فقط.
مستقبل الحوسبة المكانية
تَعِد الحوسبة المكانية بتقديم وافر الحلول لتحديات العالم الحقيقي في مختلف المجالات، كما تُقدم إمكانيات هائلة وخيارات لا حصر لها للتفاعل مع العالم الافتراضي، وأعتقد أن الأمثلة التي أوردناها والأشياء التي وصلنا إليها بالفعل تعد أدلة دامغة على حاجتنا اللحوح إلى هذه التقنية.
بيد أن هناك تحديات كثيرة تحول دون قطع أشواط أخرى كتكلفة قطع الهاردوير -وربما لهذا السبب تُسعَّر نظارات Apple بـ 3500 دولار-، وحجمها، ومرونتها، وغيرها من العوامل الأخرى.
يكفي أن نقول بأن هذه التكنولوجيا جديدة من حيث التطبيق ونحن بالكاد تمكنا من تقريب المسافات بين المستخدمين العاديين وهذا المصطلح، وهذا يأخذنا للشقِ الثاني، وهو أن هنالك أملاً؛ يومًا تلو الآخر نقترب من تحقيق الاندماج الكامل بين العالمين الحقيقي والافتراضي، للذكاء الاصطناعي وغيره دورٌ كبير في ذلك، والأهم أن وتيرة تقدمنا أصبحت أسرع من أي وقت مضى، وهذا مؤشر يبعث على التفاؤل. متحمسون للسنوات القادمة ونعتقد أننا سنصل إلى أكثر مما كنا نحلم به في وقت أقرب مما كنا نتوقع بكثير.