"صنع في الصين".. كيف نجحت بكين في فرض سيطرتها على قطاع التكنولوجيا؟
بحسب تقرير صدر عن معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي "ASPI"، تسبق الصين العالم في 37 قطاعًا من أصل 44 قطاعًا تكنولوجيًا. فالصين -الآن- تُغرّد وحيدةً في الصدارة، والغرب وأمريكا يتخلّفان عنها، وبمستواها الحاليّ في علوم الفضاء والروبوتات والطاقة والبيئة والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، وغيرها، لا يسعنا سوى الوقوف إجلالاً واحترامًا، كما لا يسعنا سوى طرح سؤال واحد: كيف؟ قبل أن نُجيب عن هذا السؤال، دعونا نأخذكم في رحلة سريعة جدًا لنتعرف على أبرز المحطات التكنولوجية في الصين، منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى اليوم الحالي.
من بداية الستينيات حتى مطلع القرن الحالي
يمكننا أن نقول إن البداية الحقيقية لازدهار التكنولوجيا في الصين كانت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، على الرُغم من أن العملاق الآسيوي كان يمر بتحديات عصية في تلك الفترة نتيجة للاضطرابات السياسية وما إلى ذلك، فإن تلك التحديات أكسبت الصين الخبرات اللازمة لتكون البلد الذي نعرفه اليوم.
في أواخر السبعينيات تقريبًا، وتحت قيادة الزعيم الصيني، المُصلح والمنظر، دينغ شياو بينغ، أخذ الاقتصاد الصيني ينتعش وسياسة الانفتاح مهدت الطريق أمام تطورات تكنولوجية سريعة ستجعل للصين في المستقبل مكانتها التي نعرفها حاليًا.
بدايةً من عام 1966، عصفت الثورة الثقافية Cultural Revolution بالصين، ودون الخوض في تفاصيل سياسية، كان لهذه الثورة الأثر الإيجابي والواضح على المجالات المختلفة مثل التعليم والتكنولوجيا، لا سيّما أن قبلها بسنتين فقط، أي في عام 1964، كانت قد نجحت في اختبار السلاح النووي لتعلن بذلك نفسها كدولة نووية.
علاوة على ذلك، بدأ البرنامج الفضائي الصيني في تلك الفترة تقريبًا، حيث أُطلِقَ القمر الصناعي "دونغ فانغ هونغ 1" Dong Fang Hong مع مطلع العقد الجديد 1970.
بدأت الإصلاحات الاقتصادية، التي قام بها الزعيم دينغ، في أواخر السبعينات، ومع بداية الثمانيات بدأ وهجها يلمع بشكلٍ لا يمكن غض الطرف عنه. المناطق الاقتصادية الخاصية Special Economic Zones (SEZs) دُشِّنت في كل مكان للتشجيع على الاستثمار الأجنبي والتعجيل من وتيرة التحول التكنولوجي وتبنيه.
معلومة على الهامش: المناطق الاقتصادية الخاصة "SEZs" هي مناطق جغرافية مُحددة داخل الدولة بأنظمة وقوانين تجارية مختلفة، يتم إنشاء الـ "SEZs" لتسريع وتيرة النمو الاقتصادي عن طريق جذب المستثمر الأجنبي وتحفيز التقدم التكنولوجي.
نتيجةً لهذه الممارسات الإيجابية، فضلاً عن الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، يمكننا أن نقول إن الصين وضعت خطواتها الأولى على طريق تكنولوجيا المعلومات بداية من تلك المرحلة. ما عزز الأمر أن الصين استغلت ثورة الإنترنت في التسعينيات بشكل ممتاز، إذ سرعان ما استخدم الصينيون الإنترنت واستفادوا منه واضعين أُساس الشيء الذي يبرعون فيه إلى يومنا هذا، الشيء الذي تُمثله الجملة الشهيرة: "صُنِع في الصين" Made in China. التجارة الإلكترونية، وموقع علي بابا خير شاهد على ذلك.
اقرأ أيضًا:دبوس Humane Ai.. هل يكون بديلاً لهواتف الشاشات الكبيرة؟
من بداية القرن الحادي والعشرين وحتى يومنا هذا
بدأ قرن جديد والصين لم تهدأ ولم تحتج سوى فترة قليلة حتى تُسيطر على سوق الهواتف المحمولة، منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا، فالصين الآن تحلّق بعيدًا عن كل الدول، وبخاصة إذا كنا نتحدث عن عدد مستخدمي الهواتف، لك أن تتخيل أن سوق الهواتف الصيني يتفوق على أسواق الولايات المتحدة والهند وإندونيسيا مُجتمعة، وذلك بحسب إحصائية أُجريت في عام 2021. ولعل سبب تفوق الصين في سوق الهواتف المحمولة وريادتها له يعود إلى تبنيها السريع، والواثق، لشبكات الجيل الثالث "3G" والرابع "4G".
ومثلما تشتهر الصين بتجارتها الإلكترونية، فإنها أيضًا تشتهر بالهواتف المحمولة وتكتنف أضخم شركات الهواتف مثل هواوي وشاومي وأوبو وفيفو وغيرها، والأهم من ذلك أنها لا تشبع ودائمًا ما تبحث عن مزيد من الهيمنة والسيطرة، فالآن يركزون على صناعة مزيد من الإبداع ويستثمرون في أنظمة وخوارزميات ثورية، وأقسام البحث والتطوير "R&D" في جميع الشركات تعمل على قدم وساق.
لم يقتصر نجاح الصين الباهر في التكنولوجيا على الهواتف المحمولة في مطلع هذا القرن فحسب، حيث استطاعت كذلك أن تُصبح ثالث دولة في العالم "بعد الصين والاتحاد السوفيتي" -في عام 2003- تُرسل شخصًا إلى الفضاء، وذلك بإرسالهم لرائد الفضاء يانغ لي وي Yang Liwe ضمن برنامج شنتشو 5.
إضافةً إلى تفوقها في سوق الهواتف المحمولة والفضاء، اهتمت الصين بالتكنولوجيا الحيوية والأبحاث الدوائية وغيرهما الكثير والكثير من المجالات الأخرى التي جعلتها دولةً تقنية بامتياز.
كانت الصين من أوائل الدول التي تبنت شبكات الجيل الخامس "5G"، وذلك في 2019، كما أنها استثمرت مليارات الدولارات فيها، وبالتحديد 400 مليار دولار منذ 2015 وحتى 2020، أي في 5 سنوات فقط! بحسب شركة "Deloitte"، فإن استثمار الصين في تكنولوجيا الجيل الخامس فاق استثمار الولايات المتحدة بـ 24 مليار دولار في الفترة ما بين 2015 و2018، وتتوقع الأكاديمية الصينية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات عوائد بقيمة 900 مليار دولار وإتاحة 8 ملايين فرصة عمل جديدة بحلول 2030.
جديرٌ بالذكر أن شركة هواوي كان لها دور محوري، بل ربما الدور الأبرز في تطور شبكات الجيل الخامس وإتاحتها للجميع، وكما نعرف جميعًا؛ هواوي شركة صينية.
على سيرة اهتمام الصين بمجال التكنولوجيا الحيوية، لا بد من الإشادة بالدور المهم والسريع الذي أسهمت به الصين في احتواء أزمة كوفيد 19 -بغض النظر أن الوباء انبثق من أحد مدنها؛ مدينة ووهان-، إذ سرعان ما تعاونت مع البلدان المختلفة مقدمة لهم المساعدة اللازمة للسيطرة على الوضع والحد من انتشار الوباء قدر المستطاع.
اقرأ أيضًا:فوائد الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته العملية للحياة والأعمال
كيف استطاعت الصين أن تفعل كل هذا؟
بنظرة سريعة على الخط الزمني لتطور القطاع التكنولوجي في الصين، الذي أسهم بشكل كبير جدًا في النمو الاقتصادي "والذي أسهم بدوره في المزيد من التطور التكنولوجي؛ دائرة مُفرغة"، سنرى أنها حققت أرقامًا مُرعبة، فمنذ عام 1990 ووصولاً لعام 2000، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من حوالي 360 مليار دولار إلى 1.2 تريليون دولار، والصادم أن الرقم وصل إلى حوالي 18 تريليون دولار في 2022!
لو أردنا إحصاء أسباب هذا التطور، فيمكننا أن نحصرهم في عدة نقاط. هي:
أولاً: ضخت الصين استثمارات ضخمة في البحث العلمي وخصصت الكثير من مواردها المادية لدعم الابتكارات وتطوير التكنولوجيا في المجالات الواعدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، ناهيك عن الإنفاق السخي على مجال البحث والتطوير، حيث تجاوز إجمالي إنفاقها على هذا المجال الـ 3 تريليون يوان "تقريبًا 418 مليار دولار أمريكي" في عام 2022 فقط.
ثانيًا: لم تبخل الدولة على الاستثمار في البنية التحتية والاقتصاد الرقمي لجذب مزيد من الاستثمارات وسد خانة الاحتياجات التي يتطلبها المستوى التقني الحالي.
ثالثًا: غيرت الدولة من هيكلها الاقتصادي وتبنت الاقتصاد الرقمي ممُهدةً الطريق للوصول إلى الريادة العالمية في هذا القطاع. منذ عام 2016 وحتى 2022، زاد حجم الاقتصاد الرقمي في الصين بمقدار 4.1 تريليون دولار، وفي 2021 وصل حجم الاقتصاد الرقمي 7.1 تريليون دولار.
رابعًا: شجعت الصين الشركات الناشئة "Startups" بقوة، وحثّت الجميع على الابتكار، ووفرت البيئة الداعمة لذلك، وهذا بالتبعية أدى إلى ظهور شركات وتقنيات مبتكرة، وبفضل هذه السياسات أيضًا، احتلت الصين المرتبة الثانية بعدد الشركات التي تجاوزت قيمتها المليار دولار، أو كما تُعرَف بـ "شركات اليونيكورن" Unicorn companies.
خامسًا: عززت الصين من التجارة الإلكترونية، كما استثمرت في الطاقة الخضراء لتجنب المشكلات البيئية مثل الاحتباس الحراري وخلافه من المشكلات التي تُشكل تحديات بيئية خطيرة.
سادسًا: وسَّعت الصين من نطاق الأمن التكنولوجي عن طريق تطوير استراتيجيات الأمن السيبراني واهتمامها بالمعلومات بشكل غير مسبوق.
سابعًا: أخيرًا، وليس آخرًا، دشّنت الصين العديد من المختبرات البحثية وخصصت مختبرات لأهم المجالات الموجودة حاليًا على الساحة مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء والتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا المعلومات، وأشهر هذه المختبرات هو مختبر بايدو Baidu Research.
ما الذي تنويه الصين هذا العام؟
استهداف "صناعات مُستقبلية"، والتركيز على الذكاء الاصطناعي العام "AGI"، فضلاً عن زيادة الاهتمام بالأدوية الحيوية هي أبرز العناوين المتعلقة بالتكنولوجيا والمُنتظرة من الصين في 2024. لم تلبث تكنولوجيا الجيل الخامس 5G أن ظهرت، وها نحن ذا نسمع عن اهتمام الصين بتكنولوجيا الجيل السادس 6G وأبحاثها.
إن ما تفعله الصين يؤهلها -بحسب الخبراء- لأن تكون رائدة المجال التكنولوجي -إن لم تكن رائدته الآن بالفعل- في غضون 15 عامًا. لا شك أن الصين تواجه تحديات صعبة، جيوسياسية واقتصادية قبل أن تكون تحديات تكنولوجية، ولكن بخبرتها الواسعة، من المتوقع أن تجتاز الصين جميع التوقعات وتكون المثال الأول الذي يُحتذى به في قطاع التكنولوجيا.