الذكاء الاصطناعي.. شريك أم منافس في عالم إنشاء المحتوى الرقمي؟
كغيرهم من أصحاب المهن الأخرى، يمتلك منشئو المحتوى علاقةً معقدةً مع الذكاء الاصطناعي وأدواته، فمن جهة تُعزز هذه التقنية من الابتكارات في الكتابة، وتساعد على تحسين المحتوى عمومًا، والمحتوى الرقمي على وجه الخصوص، ومن جهةٍ أخرى تهدد الإبداع والمبدعين، وطبعًا أصحاب المهن التقليدية، وبصراحة، كلا الأمرين حقيقيّ ووارد؛ حسب الطريقة التي ستتعامل بها مع الذكاء الاصطناعي.
بفضل أدوات الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا إنشاء المحتوى، إن صحت التسمية، تستطيع أن تزيد من إنتاجيتك دون التأثير على جودة المُنتج نفسه، وهو المحتوى. كل ما في الأمر أنك ستحتاج إلى أن تتعلم كيفية استخدام هذه الأدوات بالطريقة الصحيحة، سواء كنت مُنشئ محتوى تعليمي، أو ترفيهي، أو تفاعلي، إلخ، وبغض النظر عما إذا كان هذا المحتوى مُصورًا أو مكتوبًا.
الذكاء الاصطناعي: الشريك الجديد في عالم إنشاء المحتوى
على عكس ما قد يتوقعه البعض، فإن دور الذكاء الاصطناعي في عالم إنشاء المحتوى لم يظهر مع ChatGPT، ولا حتى قبل ذلك بخمسة أعوام أو عشرة أعوام أو حتى 50 عامًا!
نعم، فتاريخ المحتوى المُولّد بالذكاء الاصطناعي يعود إلى خمسينيات القرن الماضي، حينما بدأ العلماء يستكشفون فكرة المحتوى، أو اللغة التي تستطيع الآلة أن تتحدث بها.
في البداية، وكما هو متوقع، كان التركيز مُنصبًا على إنشاء أنظمة بدائية، يمكنها أن تعتمد على قواعد واضحة لإنشاء جُملٍ بسيطة، وهو ما كان بحكم محدودية تقنيات ذلك الوقت، ولكن في الثمانينيات تقريبًا، ومع تقدم قوة الحوسبة وتكنولوجيا معالجة اللغة الطبيعية، بدأ الباحثون في تجربةِ أشكال أكثر تعقيدًا مثل نظام "SHRDLU"، وهو نظامٌ استخدم مزيجًا من القواعد والتخمينات، لتوليد أوصاف لغوية طبيعية للأشياء في عالمٍ افتراضي.
وبالمناسبة، إذا كنت تتساءل عن معنى اللغة الطبيعية، فيُقصَد بها لغتنا نحن البشر، وقدرة الآلة على التحدث بها، واليوم، ظهر مجال "معالجة اللغة الطبيعية Natural Language Processing (NLP)" بشدة على الساحة، وأصبح من أكثر المجالات الواعدة، بل من أكثر المجالات المُثمرة في عصرنا الحديث.
بالعودة إلى موضوعنا، سنرى أن التسعينيات وأوائل الألفية الجديدة كانت الانطلاقة الحقيقية للآلة في عالم إنشاء وكتابة المحتوى الذكي، إذ ظهرت تطبيقات تجارية تتيح فرصًا وإمكانيات غير مألوفة، مثل: تخصيص المحتوى الإخباري، الذي اعتمد أصلًا على تحليل البيانات، لتوليد مقالات إخبارية مُصممة لتناسب اهتمامات القراء الفردية.
اليوم، ومع ظهور تقنيات "التعلم العميق Deep Learning" و"الشبكات العصبية Neural Networks"، فُتِحت آفاق جديدة للمحتوى المولد بالذكاء الاصطناعي، وذلك لأسباب عديدة، أهمها أن الأنظمة الحديثة تستطيع أن تتعلم أنماط الكتابة البشرية، وتوليد أشكال أكثر تعقيدًا من اللغة، كالشعر والروايات، ونحن هنا نتحدث عن المحتوى المكتوب على سبيل المثال لا الحصر طبعًا، إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحاكي الإنسان في معظم الأشياء الآن، ويُنشئ لوحات فنية أو فيديوهات مُتقنة، وأكثر من ذلك، مع عديد من صور إنشاء المحتوى.
كيف يعزز الذكاء الاصطناعي من كفاءة إنشاء المحتوى؟
بعد أن أصبح الذكاء الاصطناعي يشكل التغيير الجذري في عالم صناعة المحتوى، زادت الكفاءة والإبداع بشكلٍ لا خلاف عليه، ولعل السطور التالية تبين هذا الأمر:
1. أتمتة المهام:
من أبرز الوسائل التي يسهم بها الذكاء الاصطناعي في إنشاء المحتوى، وتشمل أتمتة المهام أشياء عدة، مثل البحث باستخدام الكلمات المفتاحية، وتحسين أداء محركات البحث، وتوزيع المحتوى على وسائل التواصل المختلفة، وبتولي هذه الأمور، تتيح الآلة للكاتب أو مُنشئ المحتوى بشكل عام أن يُركز على الجوانب الإبداعية والاستراتيجية من عمله.
ومما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يؤتمته أو يفعله بشكلٍ تلقائيّ أيضًا هي عملية الكتابة نفسها، حيث يستطيع الآن أن يكتب نصًّا رصينًا مصقولاً من الألف إلى الياء، يراعي قواعد الـ "SEO"، ويُمكن أن يُنشر على منصات التواصل، أو حتى يُحوَّل إلى سكريبت إبداعي، ولكن الجدير بالذكر أن إبداع الذكاء الاصطناعي في الكتابة تحديدًا لم يقترب من مستوى الإنسان بعد، كما أنه لا يصل إلى المطلوب من ناحية المعلومات وطريقة سردها.
2. تبسيط سير العمل:
المقصود أنه إلى جانب أتمتة المهام، تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي أيضًا أن تُبسط سير العمل من حيث التخطيط، والجدولة، وتوزيع المحتوى على منصات التواصل كما أشرنا سريعًا؛ وهذه الأمور تُسرّع من كفاءة العملية وتزيد من الإنتاجية بشكلٍ كبير، مما يعود بالنفع على العملية الإبداعية أيضًا، لا سيما في المشاريع والفِرق الكبيرة، وبمن ثم يتم ضمان -ولو جزئيًا- سير عملية إنشاء المحتوى بسلاسة.
3. تحليل البيانات والرؤى:
قدرات الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات وتقديم رؤى موثوقة تتخطى قدرات أكثر البشر مهارة على وجه الأرض، حيث تستطيع الآلة أن تُحلل كميات هائلة من البيانات من مصادر متعددة، مثل: التفاعلات على المواقع، والنشاط على وسائل التواصل، وآراء العملاء، وغيرهم من البيانات التي بتحليلها يُمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي أن تُحدد الأنماط والاتجاهات في سلوك المستهلك، مما يترتب عليه رؤى قيمة توجه استراتيجية المحتوى، بل تتنبأ بالسلوك المستقبلي.
على سبيل المثال، يمكن توقع نوع المحتوى الذي سيتفاعل معه مستخدمون محددون بناءً على تفاعلاتهم السابقة، ما يسمح بإنشاء محتوى أكثر تخصيصًا، وعلاوة على ذلك، تستطيع أدوات الذكاء الاصطناعي أن تُجري تحليلاً للمشاعر، بحيث تعرف مَن مِن الجمهور راضٍ عن المحتوى، ومن ليس كذلك، وبالتالي تجعل درجة التخصيص التي نتحدث عنها هذه أكبر وأفضل.
4. تعزيز جودة المحتوى:
لا يعني "عجز" أدوات الذكاء الاصطناعي عن مجاراة المبدعين أنها غير قادرةٍ على تحسين جودة المحتوى بشكلٍ كبير، فأدوات التحرير المدعومة بالذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، تستطيع أن تفحص الأخطاء النحوية والإملائية، وتضمن اتساق أسلوب وطريقة الكتابة مع نوع المحتوى، وحسب الطريقة التي يريدها الإنسان، بحيث يأتي هذا الأخير ويضع اللمسات النهائية قبل أن يُصبح المنتَج -المحتوى- جاهزًا، ولكن، يجب أن تكون اللمسة النهائية هذه من قِبل إنسان حتى يُحفَظ التوازن بين الإبداع البشري، وإنتاجية وتعزيز الذكاء الاصطناعي.
اقرأ أيضًا: لصحة أفضل وأعمارٍ أطول.. كيف يسهم الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية؟
التطبيقات العملية للذكاء الاصطناعي في كتابة المحتوى
بالنسبة لصناعة المحتوى عمومًا، وكتابته على وجه الخصوص، فإن الذكاء الاصطناعي يلعب دورًا لا غنى عنه، لدرجة أنك إذا سألت كاتب محتوى في 2024 عن الأدوات التي يستخدمها ولا يستطيع الاستغناء عنها مهما حدث، فإنك ستجد، ولا محالة، أداةً من أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT أو Gemini، على الأقل.
صحيحٌ أن دور هذه الأدوات غالبًا ما يكون مقتصرًا على: توليد الأفكار، أو المساعدة في بناء هيكل عام للمقال أو السكريبت، أو أي شكلٍ آخر من أشكال المحتوى المكتوب على المستوى الاحترافي، ولكن هذه الإضافات ليست بسيطة إطلاقًا، وكل كاتبٍ محترف لا بد أنه يعرف ذلك جيدًا.
ومن الأمثلة على تطبيقات الذكاء الاصطناعي العملية في مجال كتابة المحتوى:
ChatGPT
التطبيق الغني عن التعريف، والذي لا يمكننا أن نتجاهله في أي قائمةٍ من هذا النوع بأي حال، حيث يأتي ChatGPT بمعظم المميزات الموجودة بأدوات الكتابة باستخدام الذكاء الاصطناعي، وباستخدامه ستستطيع أن تُحسن من كفاءة ودقة صناعة المحتوى المكتوب، لا سيما أنه يتطور يومًا تلو الآخر.
وإذا ركز مستخدم ChatGPT في أجوبته سيجد أنها مختلفة حقًّا عن إجابات الكثير من الأدوات الأخرى، وذلك من حيث درجة التشابه مع اللغة البشرية وتفردها، والمشاعر التي يمكن أن توصلها، ويجدر بالذكر أن التطبيق المُقدم من OpenAI يوفر الآن الكثير من المزايا لمستخدمي النسخة المجانية منه، مثل "وضع الصوت المتقدم Advanced Voice Mode"، "وروبوتات الدردشة المُخصصة Custom GPTs"، ونموذج GPT-4o، وغيرها.
Grammarly
في حال كنت لا تعرف، فإن أداة التدقيق النحوي والإملائي الأشهر باتت تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي المتقدمة للتعرف على الأخطاء المختلفة وإصلاحها، ويُمكنك أن تستخدم هذه الأداة كتطبيقٍ منفصل على الهاتف أو الحاسوب، كما تستطيع أن تستخدمها كإضافةٍ على المتصفح، مما يسهل من الأمر كثيرًا، ويُحسن من جودة كتاباتك المختلفة بغض النظر عن المنصة التي تستخدمها.
WhiteSmoke
أداةُ تدقيق إملائي أخرى طُوِّرت لمساعدة الكتاب على تحسين أسلوبهم، وزيادة درجة وضوح النص، وتقدم الأداة مجموعة من الاقتراحات التي تساعدك على ذلك، كما تفعل مثل Grammarly من حيث تصحيح الأخطاء النحوية، وعلى سيرة التشابه مع Grammarly، فيمكنك أن تستخدم WhiteSmoke كتطبيقٍ منفصل على سطح المكتب، أو كإضافة في المتصفح.
Jasper
بالعودة إلى أدوات توليد النص بالذكاء الاصطناعي، فأداة Jasper تعتبر من أقدم الأدوات التي استخدمت الـ AI لإنشاء المحتوى، بدقةٍ وبسرعة، فالأداة تحتوي على قوالب مُعدة مسبقًا، تُناسب أنواع الكتابة المختلفة، كما أنها تتيح لمستخدميها تعديل أسلوب الكتابة بحيث يتناسب مع المناسبة أو الحدث، بالإضافة لإمكانية الدمج مع أدوات التدقيق النحوي، ومع ذلك، لا تخلو Jasper من بعض العيوب إذ إنها -مثل أدوات توليد النص المختلفة- قد تُغالط في الحقيقة، وتأتي بمعلومات مجهولة المصدر، وعليه، يجب أن تتأكد من صحة المعلومات وراء كل أدوات الذكاء الاصطناعي.
QuillBot
يشيع استخدام هذه الأداة الشهيرة في الأبحاث وما شابه، فهي تقدم خدمة مراجعة النصوص وإعادة صياغتها على المستوى النحوي والإملائي من جهة، ومن جهةٍ أخرى -وهذا الأهم- أنها تتيح للمستخدمين إعادة صياغة النصوص بطريقة احترافية إلى حدٍ كبير، مما يساعد على تجنب السرقات الأدبية أو العلمية فيما يُعرف بالـPlagiarism، وتستخدم أداة QuillBot الذكاء الاصطناعي الآن مما يحسن من عملها ودقتها كثيرًا.
اقرأ أيضًا: هل يقترب الذكاء الاصطناعي من التفوق على البشر؟ (فيديوجراف)
مستقبل إنشاء المحتوى مع الذكاء الاصطناعي
نستنتج مما سبق أن الذكاء الاصطناعي والابتكار هما وجهان لعملةٍ واحدة، فصحيحٌ أن الآلة لم تصل إلى مستوى ابتكار الإنسان بعد، وإن كان البعض قد يجادل في ذلك، ولكنها تعد بإمكانات واعدة للغاية، خاصة مع ظهور أدوات جديدة، وتطور الأدوات والتقنيات التي نمتلكها بين أيدينا بالفعل.
وحتى الآن، لا يُخيف الذكاء الاصطناعي شريحة واسعة من صناع ومنشئي المحتوى، لأسباب تحدثنا عنها بشكلٍ ضمني خلال السطور السابقة، ولكن في المستقبل قد تنقلب الموازين بسبب قدرات الأتمتة، وقدرات الآلة على التعلم واكتساب المهارات الإبداعية اللازمة لصنع مقطع فيديو احترافي أو كتابة مقالٍ رصين دقيق بسردٍ لا غُبار عليه، لا سيما وأن مجال معالجة اللغة الطبيعية NLP يتطور بشكلٍ مخيف، وإمكانات الآلة على معالجة لغتنا وفهمها باتت تفوق المنطق والخيال.
كيف يغير الذكاء الاصطناعي قواعد اللعبة في صناعة المحتوى؟
إذا كنت قد فهمت من حديثنا أعلاه أن الأمر يدعو للتشاؤم فأنت مُخطئ؛ حسنًا، الذكاء الاصطناعي مخيف بعض الشيء فعلًا، ولكن المستقبل فيه بصيص من الأمل ولا ريب.
تذكر أن ظهور الآلة الحاسبة للمرة الأولى جعل الأساتذة يتخوفون من أنها قد تتسبب بنسيان الطلبة لأساسيات الحساب والعمليات الحسابية، ولكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا، حيث ساعدتنا هذه الآلة، وما زالت تساعدنا، على حل الكثير من المسائل الحسابية التي كانت تحتاج إلى وقت طويل منا دون داعٍ، والأهم من ذلك أنها لم تستبدلنا، ولم تؤثر علينا أو على إنتاجيتنا، بل زودتها وجعلتنا نُدرك قيمة التكنولوجيا في حياتنا، وهذا ما نحتاج إليك في أن تراه في الذكاء الاصطناعي؛ أن تصبح من أصدقائه وتستغله بدلًا من أن تهرب منه.