سلمان الدوسري..المقعد الأخير
الرجل: دبي
جلس في المقعد المجاور، بينما تستعدّ الطائرة للإقلاع، رجل في منتصف الأربعينات يبدو عليه الوقار والهيبة، أدخل يده في جيبه وأخرج هاتفه الذكيّ، وبدأ يستمع لمحاضرة تاريخية. الصوت كان مرتفعاً للدرجة التي أجبر الآخرين على الاستماع لاختياراته، التفتُّ إليه لعلّه يفهم مقدار الإزعاج الذي أصابني وأصاب الركاب؛ نظر إليّ نظرة استغراب، ولم يفهم. اضطررتُ أن أغادر مقعدي إلى مقعد آخر بعد أن رميتُه بنظرة، إلا أنه رماني بنظرة مماثلة أيضاً، ولم يفهم. ما زال الصوت مزعجاً ويصل إليّ في مقعدي الجديد. همستُ في أذن المضيفة أن تقوم بعملها وتطلب إليه التوقف عن تثقيف الآخرين بالإكراه. قالت: فعلاً سلوك مستفزّ.. سأخبر رئيسي. ذهبت ولم تعد، ولم يعد رئيسها كذلك. يبدو أن الهيئة والمظهر لهما دور في ترك المستفزّ الأكبر يمارس إزعاجه إلى ما لا نهاية، خوفاً من تعكير مزاج حضرته. لم يتوقف إلا بعد أن انتهت المحاضرة الطويلة عن معاهدة "العقير" التاريخية، وقد تأكد أننا جميعاً استمعنا لتفاصيلها المملة.
كتبتُ تغريدة في موقع التدوين المصغّر "تويتر"، تشرح هذا الموقف، وكانت ردود المتابعين متباينة، منهم من طلب إليّ إهداءه سماعات، وآخرون عاتبوا شركة الطيران التي سمحت له بالتمادي، في حين رأى قسم ثالث أنه كان يتعيّن عليّ تشغيل أغنية لأم كلثوم بصوت مرتفع، ومعرفة ردة فعله؛ فيما مسؤول من شركة الطيران تفاعل بأنه تم إبلاغ أطقم الطائرات، بعدم السماح بمثل هذه السلوكات مجدداً. لكني أعتقد أن مثل هذه الحالة ليست نشازاً أو استثناء أو حالة طارئة، ربما تتغيّر المواقف والتفاصيل، أما أسلوب التعدّي على حريات الآخرين، فهو منتشر بكثرة، إن لم تجده في الطائرة، فستجده في المطار أو السينما أو ملعب كرة القدم أو الشارع. كثير من السلوكات الخاطئة، لا يعاقب عليها القانون نصّاً، بقدر ما هي انتهاك غير مكتوب.
ما الذي يجعل رجلاً يبدو محترماً وناضجاً، يمارس الاعتداء على مشاعر الآخرين بهذه الصورة الفجة؟ أكاد أجزم أن هذا الشخص، لو قام غيره بالفعل نفسه، لتضايق كثيراً من كمية الأزعاج. جزء من مشكلة طعن الذوق العام، يعتمد على قاعدة التناقض الكبير بين القول والفعل، في مجتمعات العالم الثالث على وجه الخصوص، ناهيك بالانطباع
السيّئ الذي يوجه إلى الأشخاص الملتزمين بالأنظمة والقوانين، وإلباسهم لباس المتزمّتين بالمثالية والبعيدين عن الواقعية، وربما المعقدين. لذلك نجد مثل هؤلاء شبه نادرين في مجتمعاتنا، وإن وجدوا، فإن النكات والطرائف والسخرية حاضرة تواجههم وتطلب منهم بشكل غير مباشر العودة عن "مثاليّتهم" المنبوذة. المجتمعات عادة تتوافق مع السلوكات السائدة ولو كانت خطأً، وترفض السلوكات الاستثنائية وإن كانت صواباً.
أفهم جيداً دور الحكومات الأساسي في رفع نسبة الوعي بين مواطنيها، وضرورة تأسيس برامج متكاملة لإصلاح الذوق العام، إلا أنّني في الوقت ذاته أزعم أن السلوكات الصغيرة المكمّلة للصورة الكبرى، تنبع من الأشخاص أنفسهم وقبلها أسرهم؛ فتناول الطعام بطريقة فوضوية في المطاعم، أو الاستخدام السيّئ للمواصلات العامة، أو النظر للآخرين ثم العبوس في وجوههم، أو الحديث بصوت عال في الهاتف الجوّال في الأماكن العامة...وغيرها من السلوكات المنافية للذوق العام، لا يمكن تعيين شرطيّ آداب يراقبها ويعاقب من ينتهكها؛ هي مهمة أساسية للمجتمعات، إما أن ترفضها وتنبذ من يمارسها، أو تغضّ النظر عنها وتسمح باستمرارها جيلاً بعد جيل.
ستستمر المجتمعات متمسكة بتناقضاتها بين ما تصبو إليه وبين ما تمارسه واقعاً، مادام كل فرد آثر أن لا يبدأ بنفسه ويصحّح سلوكاته، مفضلاً الانتظار جلوساً في المقعد الأخير.