سلمان الدوسري: عندما كذبت على ابني
في لحظة صفاء، وبينما كنت أحكي قصة لابني الصغير وهو يستعدّ للنوم، باغتني بسؤال ليس على البال ولا على الخاطر: من أكثر شهرة أنت أم عمّي فلان؟ وفلان هذا صديق عزيز ومشهور جدًا، كنت التقيته مع أبنائي عصر اليوم نفسه. أربكني السؤال وتردّدتُ في الإجابة قليلاً، فأنا بين خيارين، إما أكون مثاليًّا وأقول الحقيقة وأصدم ابني الذي يعتقد خطأ أن الصحافيين يعرفهم الناس جميعًا، وأن والده أشهر مَن في هذا العالم، وإمَّا أكذب عليه، نسمّيها مجازًا كذبة بيضاء، بينما الكذب لا لون له، وأبقى في مستوى تطلعات طفلي الصغير، إلى أن يكتشف الحقيقة المُرَّة بنفسه.
ترددي قرأه الطفل سريعًا وهو يعيد السؤال وأنا إلى جانبه على السرير: لم تُجبْ مَن الأشهَر: أنت أم هو؟ تنهّدتُ ثم أجبته مغمض العينين: والدك أكثر شهرة. حينها أغمض الطفل الصغير عينيه مبتسمًا، حتى غلبه النوم ولم تغب ابتسامته. يا ترى لو عرف الحقيقة هل استمرت ابتسامته وهو نائم؟
يقول منظّر الكلاسيكية، الناقد الفرنسي بوالو: "لا تقدموا نفوسكم وعاداتكم في أعمالكم الأدبية إلاّ في صورة نبيلة". وهكذا الإنسان في الحياة أيضًا، يسعى دائمًا وأبدًا للظهور بالشكل المثالي. في واقع الأمر هو يتخلّى عن حقيقته دون أن يشعر ويظهر بثوب آخر.
خذ عندك المبادئ التي يؤمن بها مع أسرته يتبدّد جزء كبير منها عندما يرافق أصدقاءه، والقيم التي يتمسّك بها أمام أبنائه، يتغافل عن بعض منها أمام زوجته. أما سلوكياته وقت الخطوبة فتختلف كليًّا عنها بعد الزواج. وهكذا يظهر الإنسان على طبيعته عندما لا يشعر بأي ضغوط تجبره على أن يسلك سلوك المثالية. والسؤال هنا: هل حقًّا المثالية أجمل من الواقعية؟ لماذا لا نتصرّف على طبيعتنا ما دُمنا اخترنا هذه الطبيعة على ما فيها من أخطاء؟
أحد الأصدقاء أتاه ابنه فرِحًا بشهادته الدراسيّة، وقد حاز درجة ممتاز في سبع مواد، بينما الثامنة جيد جدًّا، ليعلق الأب: "جيد جدًّا! كان يفترض أن تحصل على درجة ممتاز في كل المواد". ثم قدّم محاضرة طويلة مملّة في الجدّ والاجتهاد الدراسيين.
هذا الأب أراد أن يكون مثاليًّا على حساب المنطق والعقل والواقع أيضًا، بينما هو نفسه لم يحز طوال حياته درجة ممتاز واحدة. قلت له: ابنك لا يزال في مرحلة التعلّم، وهو ليس ملاكًا. بالمناسبة هل يعرف شيئًا عن تاريخك الدراسي الأسود؟ صدَّ عني ولم يُجب طبعًا.
مهر المثالية مكلف لا يقدر عليه إلا من يستطيعون تصحيح أخطائهم حقًّا، وليس قولاً فحسب، ما أسهل التنظير في الوفاء والحب والشجاعة والفروسية، وما أصعب تكاليفها! في نهاية الأمر من لا يمتلكها حقًّا سينكشف عاجلاً أم آجلاً. البشر بطبيعتهم معرضون للزلل وارتكاب الأخطاء، إما يكون الإنسان على طبيعته ومواجهة أخطائه أو تصحيحها شيئًا فشيئًا، وإما يترك المثاليات التي ليست من شخصيته ولا تناسبه، بل وتقلل من احترام الآخرين له.
المثاليات الزائفة لا تختلف عن الساعات المقلّدة، تبهرك من الخارج وإذا تمعّنت فيها تكتشف أن صاحبها يبدو أفضل ألف مرة من دونها. لذا سأبدأ بنفسي وأقرأ هذا المقال لابني تكفيرًا عن ذنبي بعدما كذبت عليه.
رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية ومجلة الرجل