محمد النغيمش يكتب: أنواع أحاديثنا وزلّاتها
من الأمور التي تدب بسببها الخلافات في أحاديثنا هي عدم إدراك المستمع والمتحدث لدورهم تجاه ستة أنواع من الأحاديث. هذه الأنواع توصّل إليها علماء تحليل الحوارات والخطابات conversation analysis بعد دراسات مستفيضة على الحوارات. فهم ما أن يحولوا الحوارات المنطوقة إلى نصوص مكتوبة لدراستها حتى يتضح لهم مكامن الخلل أو زلاتنا.
على سبيل المثال هناك من يحاول أن يصوّب أو يرفض أو يشكك في كلام شخص لم يَقُل سوى ما يعبر به عن مشاعره اتجاه مشهد رآه أو حكاية تناهت إلى أسماعه. وهذا ما يُسمّى بالحوار الوصفي descriptive وفيه يحاول الإنسان تحويل تلك الصورة الذهنية الحقيقية أو التخيلية إلى نصٍّ للطرف الآخر.
مشكلتنا تقع حينما نحاول أن نعتبر هذا الحوار حقائق مجردة فنتصادم مع شخص لم يقم سوى بمحاولة وصف مشاعره أو مشاهداته. والأمر نفسه ينطبق على "الحديث السردي" narrative وهو سرد أحدنا لأحداث حقيقية أو خيالية رغبة في "إمتاع" المحيطين به من خلال سرد تجربة شخصية أو تخيلية أو قصة سمعها أو قرأها.
ونلاحظ أحيانا أن مجرَى الحوار قد يتحول فجأة إلى ما يشبه "الإجراءات" وهي عندما يصف لنا المتحدث آلية حل مشكلة معينة ككيفية تغيير إطار سيارة تعطلت في عرض الطريق، أو وصف كيف يمكننا عمل كوبٍ من القهوة، أو وصفه تحضير كعكة، أو كيف نصلح عطلاً في المنزل. هنا من البديهي أن ننتظر الشخص حتى يفرغ من ذلك "الحديث الإجرائي" procedural قبل أن نتسرع بالتعليق أو التشويش عليه.
وفي حالات أخرى قد ندخل إلى مرحلة أعمق، وهي أقرب إلى الموضوعية وربما العقلانية للتأثير في المتلقي وهو ما يسمّى بـ"الحديث الإقناعي" persuasive كمَنْ يحاول أن يقنع آخر بأهمية الديمقراطية أو الحرية في البلاد، وأهمية التشبث بمجانية التعليم والرعاية الصحية. نلاحظ في هذه المرحلة أننا ندخل في حالة "مشروع انقسام"، فحين لا يعجبني هذا الكلام سأحاول إقناع الطرف الآخر بحجة أخرى أراها دامغة على وجوب عدم دعم التعليم مثلاً. ولهذا فإن طبيعة هذه الأحاديث يغلب عليها شيء من الندّية.
وهو أيضاً ما يجرّنا للنوع الخامس "الحديث الإيضاحي" expository وهو عندما يبدأ أحدُنا في تعداد محاسن أو مساوئ أمرٍ معين، وهو بذلك الحديث يُحاول أن يوضّح لنا أموراً معينة حول موضوع محدد.
ولذلك نجد أنَّ صفات هذا النوع من الأحاديث مبنية على الحقائق، وتفسير المعلومات، فضلاً عن مقارنات وتعميمات وعرض الأسباب والنتائج. ونلاحظ هناك أن الأحاديث الإجرائية والإيضاحية والإقناعية ذات طبيعة تختلف قليلاً عن الوصفية والسردية.
أما النوع الأخير الشائع فهو "الحوار التقليدي" conversational الذي يقع بين طرفين ويلاحظ في هذا النوع أن الناس تتواصل عبر محتوى شبه متقارب أو متكافئ، بمعنى لا يحتكر أحدٌ الحوار بمفرده. ولهذا السبب تجد هناك أدواراً متبادلة ومريحة في هذا الحوار.
وعندما يتحدث طرفٌ تجد الآخر يصغي إليه ثم يأتي دوره للحديث وهكذا. باختصار هي حالة تجاذب أطراف الحديث بصورة حوارية بين محيط الأصدقاء، والزملاء، والأقرباء شريطة أن يكون هناك تبادل في الكلام من دون استئثار أحد في الحديث على حساب الآخرين.
هذه هي النماذج الستة الرئيسة في الأحاديث التي ذكرها العالم نيكول مولر وزملاؤه، هي أحاديث أو ربما بصورة علمية أدق discourse أي خطابات يوجهها الفرد لمستمعيه في حين أن الحوارات conversation هي ما يحدث بين طرفين وفيها تبادل أدوار وليست خطابات (أو أحاديث أو مقاطع) يلقيها الفرد كقصة أو سرد أو إجراءات. وهذا لا يعني أن الحوارات تخلو من تلك الأحاديث.
وتجدر الإشارة إلى أن الحديث الواحد قد يتخلله أكثر من نوع من الأنواع السابقة. ولهذا يتوقع من المستمع أن يدرك جيداً في أي فلك يدور فيه هو ومحدثه حتى لا يتسرع في تشويه قصة سردية أو لحظات وصف جميلة لا تتطلب من الآخرين سوى آذان صاغية حتى يفرغ المتحدث من كلامه.