النظام الرأسمالي يترنح: هل ستبدل كورونا ملامح الاقتصاد العالمي؟
الرأسمالية في مأزق كبير حالياً وهناك إجماع بين الاقتصادين والسياسيين في كل أنحاء العالم حول اختلاف النظام الاقتصادي في مرحلة ما بعد كورونا عما هو عليه حالياً. كوفيد ١٩ أحدث زلزلاً اقتصادياً في كل دول العالم أدى إلى خسائر مالية ضخمة، وإغلاق تام وارتفاع في نسب البطالة وارتفاع نسبة الانكماش وانخفاض في عمليات الإنتاج.
لأكثر من أربعين عاماً وعالم الأعمال يعتمد الكفاءة الاقتصادية كمسار وحيد، وبعيداً عن الصور التي يقدمها عالم الأعمال للعالم فإن الأهداف هي نفسها، خفض التكلفة، زيادة الأرباح وزيادة سعر الأسهم.
ظاهرياً الأجندة المحسوبة هذه تبدو ذكية للغاية وتوفر المحرك الفعال جداً للتوسع الاقتصادي، ولكن أسفل السطح هناك الجانب الأسود لاستغلال هذه الأهداف الضيقة من أجل اتخاذ قرارات معقدة ووفوضوية.. وعندما ينفصلون عن الأسس الأخلاقية فهم يمزقون نسيجنا الاجتماعي.
اقتصاديو السوق الحرة ساعدوا في عملية الانفصال هذه، فهم ولسنوات روجوا لمبدأ أن أفضل الطرق لتنظيم مجمتع مزدهر وسليم هو من خلال السماح للأفراد بوضع مصالحهم المالية الذاتية أولاً من خلال الأسواق الخاصة فـ «الأنانية الجماعية» تؤدي إلى توجيه المجتمع إلى الطريق الصحيح حيث تعمل المنافسة ديناميكياً على تحقيق أفضل النتائج.
ثم فرضت جائحة كورونا نفسها على العالم وتبدلت الأمور ووضعت العمال والأكثر فقراً في الواجهة. الأزمة الصحية العالمية وضعت عدم المساواة الإجتماعية والاقتصادية تحت المجهر. الملايين فقدوا وظائفهم، غالبية أبناء الطبقة الوسطى باتوا تحت خط الفقر، عدد كبير لم يعد بإمكانهم توفير المستلزمات الضرورية للعيش وفئة أكبر لم تعد تملك ما يكفي لتوفير مستلزمات التعليم عن بعد لأولادهم أو أي من أساسيات الحياة. الأزمة الاقتصادية الناجمة عن كورونا طالت كل المجالات وباتت تهدد أسس المجتمعات.
صحيح أن المساواة الاقتصادية والاجتماعية لم تكن موجودة منذ البداية، ولكن الفيروس سلط الضوء على عيوب النظم الاقتصادية والاجتماعية الحالية. التداعيات غير المسبوقة والتي شكلت تحديات كبيرة دفعت الحكومات وحتى الشركات إلى إعادة النظر في سلوكها الاقتصادية ليس من أجل تجاوز التحديات الحالية فحسب بل لمحاولة تفاديها في المستقبل.
فيديو|الصينيون يسيطرون على قائمة «أغنياء الرعاية الصحية» في العالم
الرأسمالية فشلت في مواجهة الأزمة
الصورة الحالية مبهمة وغالبية الدول والخبراء لا يملكون إجابات حاسمة حول ملامح الاقتصاد العالمي الجديد للمرحلة المقبلة ولكن ما هو مؤكد ومعروف عند الجميع هو أن النظام الرأسمالي فشل في مواجهة الأزمة وبالتالي تعالت الأصوات المطالبة باعتماد نظام جديد أكثر متانة قابل على مواجهة أي تحديات مستقبلية.
ولكن المشكلة هي أن الفشل الحالي للنظام الرأسمالي ليس الأول، فالنظام هذا فشل من قبل في مواجهة أزمات سابقة وقد قامت الدول ببعض التعديلات لتجاوز المحن. تعديلات سرعان ما تخلت عنها عندما وصلت الى بر الأمان. ولكن السؤال المطروح والذي يؤرق الجميع هو عن البديل الذي يمكنه أن يحل محل النظام الرأسمالي، وبما أن البديل غير متوفر حالياً فهذا يعني أننا لسنا أمام مرحلة استبدال نظام بآخر ولكننا بالتأكيد أمام مرحلة تعديلات جذرية.
فيديو| بيتكوين والفضة والذهب الأكثر ربحاً خلال 2020 بسبب كورونا
هكذا سيبدل كوفيد ١٩ الرأسمالية للأبد
شبكة أمان اجتماعي جديدة
كشفت الجائحة عن الخلل الكامن في شبكات الأمان الاجتماعية، وهذا الواقع سيدفع الحكومات إلى التفكير بمقاربات وسياسات أفضل تكون أكثر تفهماً لاحتياجات العمال. بعض الدول تملك أنظمة إعاناة للعاطلين عن العمل، وبعضها لا يملك هذه الأنظمة ولا حتى يملك القدرة المالية على جعلها جزءا من نظامها الحالي. ولكن هذه الأنظمة لا تكفي، فما توفره لا يكفي معظم الأحيان كما أنها حلول جزئية مؤقتة. العالم حالياً ومع استمرار الوباء بات أمام مشكلة لم يخيل إليه أنه سيتعامل معها على نطاق واسع وهي مشكلة الجوع.
شبكات العولمة الهشة خذلت العالم
النظام الرأسمالي يقوم على العولمة وحرية التجارة والفيروس جاء ليظهر حجم هشاشة شبكات العولمة هذه. منذ بداية الفيروس وحتى قبل تفشيه على نطاق واسع وجد العالم نفسه يعاني، فمع انتشار كورونا في الصين وجد العالم صعوبة في تلبية احتياجاته من بعض السلع فالتجارة في الصين تمثل ٦٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ثم تضاعفت المشكلة مع انتشار الفيروس واختبار العزل الدولي بحيث كان على كل دولة الاكتفاء بما هو متوفر.
بعد الوباء ستكون الدول والشركات أمام مرحلة مراجعة سلاسل التوريد التي أصبحت معقدة للغاية في السنوات الأخيرة، وسيعني ذلك على الأرجح، انخفاض دور بعض الدول كالصين تحديداً، وإقامة تعاون مع الدول الأخرى التي يمكن أن تحل محلها.
الأتمتة في القطاع الاقتصادي
«قدم الوباء مثالاً واقعياً على أن الروبوتات لا تمرض في حين أن البشر يمرضون»، تصريح لرئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي الأمريكي يختصر التوجه العالمي لمرحلة ما بعد كورونا. ففي دراسة حملت عنوان «كوفيد ١٩ بعد مرور ١٠ سنوات» أعدها «بنك أوف أمربكا»، تبين بأن الأتمتة ستكون اتجاها عالميا لتجنب مأزق مماثل في المستقبل.
فوفق الدراسة هناك احتمال استبدال ٧٥٪ تقريباً من الوظائف في البلدان النامية بأجهزة الروبوت. الواقع هذا يعني فقدان المزيد لوظائفهم وبالتالي ارتفاع معدلات البطالة سيكون من ملامح الاقتصاد الدولي الجديد.
تنامي الأتمتة سيؤدي إلى انكماش في الاقتصاد وسيؤخر التعافي الدولي كما أنه سيزيد الهوة بين الأغنياء والفقراء وقد نكون أمام واقع جديد أقل إنسانية من الواقع الحالي.
الحاجة لنظام أكثر إنسانية
كورونا كشفت بأن النظام الرأسمالي يقوم على الاستفادة وعلى تعويم نفسه على حساب حق الأفراد في الحياة الآمنة الكريمة. الجائحة كشفت عن واقع قاسٍ غير إنساني، فالفقراء وأصحاب الدخل المحدود عليهم الخروج والعمل ومواجهة مخاطر الإصابة بينما يزدادون فقراً مقابل فئة تجني الملايين من الجائحة وتنعم بحماية كاملة لأصولها وأموالها نتيجة لقوانين المصارف المركزية في الدول.
الشعوب تركت تحت رحمة طمع المؤسسات التي استفادت من الجائحة وجعلت الحصول على أبسط طرق الحماية صعب المنال لمن لا يملك المال. السياسات الصحية التي تديرها شركات الأدوية تغاضت عن الحقوق الأساسية للناس في الحماية من الأمراض وحتى السباق الحالي لابتكار اللقاح أظهر عدم إنسانية هذه المؤسسات التي تخوض حرباً شرسة للغاية في الخفاء كي تتمكن من «الفوز» بحق إنتاج اللقاح وتحقيق الأرباح الخيالية.
زيادة مخاطر ديون الدول
النظام الرأسمالي تلقى صفعات متتالية بسبب زيادة الإنفاق الحكومي بشكل غير مسبوق ما رفع من نسبة العجز في عدد كبير من الدول وحتى أنه كثر الحديث مؤخراً عن دول عديدة باتت قاب قوسين أو أدنى من إعلان إفلاسها.الدين سيكون أحد أبرز خصائص الرأسمالية في الوقت الراهن، وفي عالم ما بعد كورونا سيكون على صانعي السياسات الدولية إما تقبل العيش مع أعباء الديون الهائلة أو القيام بإصلاح شامل للنظام الحالي.
صندوق النقد الدولي عبر عن مخاوفه من ارتفاع مستويات الديون في الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حد سواء بسبب الإنفاق الموجه لتنشيط الاقتصاد في ظل أزمة كورونا ومن المتوقع أن يتجاوز الدين العام العالمي مستوى الناتج المحلي الإجمالي المجمع للمرة الأولى على الإطلاق. عدد كبير من الدول قد تقوم بإعادة هيكلة ديونها ولكن في المقابل هناك حاجة ملحة لتخفيف أعباء الديون عن الدول الأكثر فقراً في العالم. وهذا لا يمكنه أن يتم من خلال تجاهل ما تسبب بذلك وبالتالي هناك حاجة ماسة لإجراء تعديلات جذرية محلية وعالمية.
أسس النظام الرأسمالي لم تعد قوية
يقوم النظام الرأسمالي على ركائز أساسية هي حافز الربح، النمو للنمو أي التراكم المستمر، سيطرة البورصات والبنوك والحاجة للتوسع بشكل دائم. الخسائر التي قدرت بالمليارات أظهرت أن هذه الأسس هشة، ما أدى إلى فقدان الثقة به. الشعوب فقدت ثقتها بالقطاعات الخاصة ولم تعد تتقبل منطق الربح في كل المجالات خصوصاً في القطاعات الصحية والبحوث العلمية. فالنظم الصحية حول العالم أظهرت عجزها وفشلها في مواجهة الفيروس في جميع دول العالم.
في المقابل النمو والتوسع قد لا يكونان من الخيارات المعتمدة لاحقاً خصوصاً أن التوجه المقبل سيكون الاكتفاء الذاتي والتقليل من الاعتماد على الخارج.
وفي السياق نفسه أظهر كوفيد ١٩ تبدلا في النزعة الاستهلاكية للشعوب، وحتى تبدل كلي في المزاج الاستهلاكي. وبما أننا أمام مرحلة طوعية أو إلزامية قائمة على التقليل من الاستهلاك فإن النزعة الاستهلاكية السائدة منذ السبعينيات قد وصلت إلى خواتيمها.
في ظل تفشي كوفيد-19.. كيف تحقق الشركات أكبر استفادة من النظام الإيكولوجي؟