عصر إعلانات الـ ٣٠ ثانية انتهى.. فما الذي ينتظر الشركات؟
منذ بداية السبيعينيات تقريباً والتليفزيونات حول العالم تعمل وفق مبدأ واحد وهو بث البرامج أو المسلسلات أو ما تعرضه لمدة ٣٠ دقيقة أو ساعة ثم بث الإعلانات التي تكون مدة كل واحد منها ٣٠ ثانية.
بيد أنه منذ عام ٢٠١٧ بدأنا نشهد على تحول في هذا التوجه إذ شكلت إعلانات الـ ٣٠ ثانية ٤٩٪ من حجم الإعلانات بعد أن كانت تشكل ٦١٪ من مجمل الإعلانات في عام ٢٠١٤. وفي ذلك العام أيضاً بدأت إعلانات الـ ١٥ ثانية تشكل ٣٦٪ من مجمل الإعلانات، وإعلانات العشر ثوانٍ ٥٪ منها.
التحول هذا لم يحدث بين ليلة وضحاها بل تحقق نتيجة مسار جعل شركات الإعلانات تدرك بأن الخيارات التي كانت تعتمدها ليست أفضل الخيارات.
من الـ ٦٠ ثانية إلى الثلاثين.. فأقل
لو عدنا إلى المراحل الأولى للإعلانات التليفزيونية فإن المدة المعتمدة بشكل عام كانت ٦٠ ثانية. النمط هذا استمر على ما هو عليه وكان ناجحاً لفترة من الزمن ولكن بحلول عام ١٩٧١ ومع رفع الأسعار والخسائر التي منيت بها إعلانات شركات التبغ تم الانتقال إلى نموذج جديد أقصر وهو نموذج إعلانات الـ ٣٠ ثانية وذلك لتوفير المال.
إعلانات الـ ٣٠ ثانية استمرت بفرض هيمنتها على عالم الإعلانات لبعض الوقت، وبحلول الثمانينيات بدأنا نشهد على أنواع جديدة من الإعلانات مدتها ١٥ ثانية وذلك لأن المعلنين كانوا يبحثون عن خيارات لا تكلفهم الكثير ولكنها تضمن لهم في الوقت عينه الترويج.
النقاش الجدي حول جدوى إعلانات الـ ٣٠ ثانية ورغم أنه ظهر في عام ٢٠٠٤ ولكنه لم يفرض نفسه إلا بحلول عام ٢٠١٧ وذلك بسبب هيمنة منصات التواصل الاجتماعي والتوجه نحو إعلانات الفيديو في يوتيوب وغيره من المنصات الأخرى التي لا علاقة بالتليفزيون.
من الملام.. جوجل أم التبدلات الاجتماعية؟
في الواقع لا يمكن الحديث عن جهة واحدة يلقى عليها باللائمة لأن التبدل هو نتيجة عوامل عدة متداخلة.
شركات الإعلانات لطالما افترضت بأنها حين تشتري مساحة الثلاثين ثانية على شاشات التلفزة فهي تحصل على انتباه الجمهور لثلاثين ثانية كاملة. ولكن الدراسات التي بنيت لاحقاً على فيديوهات المواقع وتطبيقات الهواتف أظهرت بأن الشركات مخطئة تماماً وبأن الجمهور يفقد الاهتمام بسرعة.
وفق دراسة أجرتها شركة «ريل أي» التي شملت إعلانات الفيديوهات المنشورة على مختلف أنواع الفيديوهات وعلى المواقع المختلفة وعلى تطبيقات الهواتف فإن اهتمام الجمهور بالإعلانات ينخفض بشكل كبير بعد ١٥ ثانية وبالتالي الـ ١٥ ثانية المتبقية مضيعة للوقت ولمال الشركة التي أنفقت الكثير من أجل إنجاز الإعلان.
في المقابل هناك واقع أن طبيعة الجمهور تبدلت وبالتالي معدل القدرة على الاحتفاظ باهتمام الجمهور تراجعت. فكل مشاهد بات يملك خيارات لا تعد ولا تحصى من محطات التلفزة التي يمكنه مشاهدتها وبالتالي لم يعد هناك إمكانية فرض الإعلان على المشاهد، فهو أن كان سيشاهد الإعلان فهو سيقوم بذلك لأنه أثار اهتمامه وليس لأي سبب آخر. وطبعاً المشاهد حالياً بات يملك خيار التلفزيون «غير التقليدي» مثل نتفليكس أو «أبل تي في» وغيرها والتي هي خالية كلياً من الإعلانات.
التبدل في المزاج العام والتبدل الكبير في عالم التلفزيون والإعلانات جعلا الشركات أمام واقع جديد عليها التعامل معه وفق «ما يطلبه الجمهور» وإلا ستكون إعلاناتها مضيعة لمالها ووقتها.
البعض هنا يلوم غوغل وإعلانات يوتيوب وفيسبوك التي جعلت الجمهور يعتاد على الإعلانات القصيرة وعلى خيار عدم المشاهدة.
خيار عدم المشاهدة أي تخطي الإعلان عنى أن الشركة عليها أن تحصل على إهتمام الجمهور خلال ١٠ ثوان أو حتى ٥ ثوان في بعض الأحيان والإ سيقوم المشاهد بتخطي الإعلان ومتابعة مشاهدة ما كان يشاهده. وهنا بدأ عالم الإعلانات بالتحول مجدداً.
أفضل المشاريع الناجحة.. أفكار مُجربة للبيع أون لاين أو في المتاجر
أي نماذج إعلانية هي الأنجح حالياً؟
في عالم التلفزيون هناك إعلانات الـ ١٥ ثانية التي هي الأكثر اعتماداً برغم أن بعض الشركات ما تزال تلجأ الى إعلانات الـ ٣٠ ثانية. ولكن الغالبية الساحقة من الشركات لم تعد تكترث لوضع إعلانات تليفزيونياً فالجمهور كله بات يمضي وقته كاملاً على مواقع التواصل أو على يوتيوب أو على تطبيقات الهواتف وبالتالي هنا نماذج أخرى يجب العمل عليها.
يوتيوب، وبعد مرحلة تخطي الإعلانات، والتي ما تزال موجودة حالياً، قدم نموذجاً جديداً وهو إعلان الست ثوان. هذه الإعلانات القصيرة جداً لا يمكن تخطيها بل يتم إرغام الجمهور على مشاهدتها قبل السماح لهم بمتابعة مشاهدة ما يريدون مشاهدته أو الاستمرار بقراءة أمر ما أو ممارسة لعبة ما في العالم الافتراضي.
حالياً يمكن القول إن نموذجي الـ ١٠ ثوان وال١٥ ثانية هما الأكثر اعتماداً ونجاحاً.
ولكن هذا لا يعني أننا نتحدث عن قاعدة ثابتة، إذ يجب اختيار النموذج وفق المنصة، فمثلاً الإعلانات على فيديوهات فيسبوك تتراوح مدتها بين ١١ و٢٠ ثانية وليس ٦ ثوانٍ كما هو حال إعلانات يوتيوب «الإلزامية».
إعلانات الـ ٦ ثوان و الـ ٣ ثوان!
رغم أن نموذجي الـ ١٠ و الـ ١٥ ثانية هما الأكثر اعتماداً حالياً ولكن عددا كبيرا من الشركات بات يجنح نحو نماذج أقصر.
إعلانات الـ ٦ ثوانٍ معتمدة على نطاق واسع على مواقع التواصل وعلى الفيديوهات وقد شقت طريقها إلى شاشات التليفزيون.
البعض قرر تقليص المدة أكثر لـ ٣ ثوان، وبرغم أن النموذج هذا موجود على مواقع التواصل والتطبيقات ولكن التليفزيونات بشكل عام لا تحبذ «بيع ٣ ثوان» لا أكثر وإن كنا بدأنا نشهد على تحول خجول في هذا المجال. في العام ١٩٩٠ أرادت شركة ألعاب الفيديو الترويج للعبتها «سيغا» وحاولت شراء ٣ ثوانٍ لبث إعلانها، جميع الشبكات رفضت برغم أن الشركة المعنية قالت بأنها ستشتري ١٠ مساحات أي ما يعادل ٣٠ ثانية ومع ذلك الشبكات رفضت بث إعلانات مدتها ٣ ثوانٍ.
التبديل ليس فقط في المدة
تقليص المدة الزمنية للإعلانات يعني تبديلا كليا للمقاربة المعتمدة. الشركات كان عليها إعادة التفكير بالطريقة التي تريد إيصال رسالتها للجمهور وعليه كان هناك حاجة ماسة لرسالة سريعة وواضحة ومباشرة.
ما حصل في عالم الإعلانات المصورة هو تحولها إلى ما يشبه الإعلانات المطبوعة.. فكرة غريبة ولكنها تعبر عن الواقع الحالي. الإعلانات تتمحور حول رواية قصة ما تؤثر بالجمهور وتعلق بالذاكرة ولكن القيام بذلك مستحيل خلال ٦ أو ١٠ ثوان وبالتالي ما تسعى إليه الشركات المعلنة هو ترسيخ صورة في عقل الجمهور.. وبالتالي العمل وفق مبدأ عمل الإعلانات المطبوعة. فحين يرى شخص ما إعلان في مجلة ويعلق في ذاكرته فالشركة تكون حققت هدفها وخلقت صورة زرعت في عقل المشاهد عن هذه الماركة أو تلك. وهذه المقاربة هي المعتمدة للإعلانات القصيرة، خلق صورة تعلق في الذاكرة والابتعاد عن رواية القصص إذ لا يمكن رواية أي قصة خلال ١٠ أو ١٥ ثانية.
هل يمكن الإبداع ضمن إطار زمني قصير؟
في الواقع الصرخة تعالت منذ مدة وعدد كبير من الذين يعملون في مجال الإعلانات أعلنوا في أكثر من مناسبة بأن الخروج بأفكار مبدعة لإعلانات لا تتجاوز مدتها العشر ثوان مستحيل.
ولكن إحدى الدراسات التي تمت مؤخراً على أنماط المشاهدة قد تمنح شركات الإعلانات بعض الأفكار والخدع التي تحتاج إليها من أجل إبتكار إعلانات مبدعة. بطبيعة الحال المشاهد لم يعد يملك القدرة على التركيز على أمر محدد لمدة طويلة، فهو يمل وينتقل لأمر آخر خصوصاً وأن الخيار هذا متاح في كل مكان. ولكن تبين بأن الشركات الخالية من الإعلانات مثل نتفليكس مثلاً أسست لمبدأ المشاهدة المتتابعة بحيث يشاهد الشخص مسلسلاً كاملاً من دون توقف. وهذا الأمر يعني أنه طالما أن المشاهد يطلع على مواد تثير اهتمامه فهو مستعد للمشاهدة لساعات طويلة من دون توقف.
وهذا يمكن ترجمته للإعلانات رغم عصر السرعة الحالي وفق هدف الشركة. إن كان الهدف هو التأثير عاطفياً بالجمهور من خلال الإعلان فحينها إعلانات الـ ١٥ ثانية هي النموذج المثالي. وفي حال كان الهدف ترسيخ صورة ما في عقول الجمهور فنماذج الـ ١٠ و٦ وحتى الـ ٣ ثوان هي المثالية. إعلانات الـ ٣٠ ثانية نادراً ما تحقق غايتها حالياً مهما كانت مؤثرة، فالمشاهد سيتوقف عن المشاهدة. ١٥ ثانية في عصرنا الحالي أكثر من كافية، ونعم يمكن رواية قصة مؤثرة ومترابطة يمكن للجمهور التماهي معها خلال ١٥ ثانية.
وعليه إن كان المعلن يهدف إلى تحقيق غايته فعليه التأقلم مع الواقع الحالي، وحالياً إعلانات الـ ٣٠ ثانية مضيعة للوقت والمال.
كوفيد ١٩ كشف أن الشركات لم تكن «تستمع» فعلياً للعاملين لديها عن بعد!