مهنة القلافة.. سواعد هندست وبنت وأطلقت مراكبها لتخوض غمار البحر
تشتهر المملكة العربية السعودية، منذ القدم، بالعديد من المهن والصناعات اليدويّة الّتي برع فيها المواطنون، ومنذ القدم عُرف عن صانعي الصفن بأنهم «القلافون» أو «الجلافون»، وتعني تلك الكلمة قشر الشجرة ونحي لحائها، فاشتهرت مهنة القلافة في المملكة قديمًا، حيث كان يصنع هؤلاء القلافون السفن القديمة والقوارب، وكانوا هم مهندسيها وليسوا بُناتها فقط.
أصل مهنة القلافة
كانت تبدأ الأمور من أعمال النجارة في الأخشاب المستخدمة لبناء السفينة إضافة إلى تحديد المقاسات المطلوبة للسفينة أو القارب، وتعود أصول تلك المهنة إلى منطقة الخليج العربي التي اشتهرت بها، حيث تمكّنت المنطقة من تخريج العديد من القلافين المهرة الذين تخصصوا في بناء السفن التي تسافر إلى البلاد البعيدة، وأُطلق عليها وقتها عابرة للبحار والمحيطات.
الملك فيصل ثالث الملوك .. صاحب النهضة المالية والمدافع الأول عن القضية الفلسطينية
السفن التي كانت تتم صناعتها في منطقة الخليج والمملكة كانت تتطلب مهارات خاصة واحترافية من القلافين المتخصصين في بناء السفن، وتجنب الأخطاء التي قد تُكلّف ركاب السفينة حياتهم، وكانت تصل تلك السفن إلى الهند وباكستان وبلدان أخرى، من أجل التجارة وجلب المؤن.
وحول أصل كلمة القلافة وبداية المهنة، قال أحد المثقفين إنه لا يدري تحديدًا من أين جاءت تلك الكلمة، ولكنه يرى أنها ربما تكون لها علاقة بكلمة Gulf الإنجليزية والتي معناها الخليج في العربية، ولكنه يرى أيضًا أن ارتباط كلمة القلافة بالخليج يجعل أصحاب تلك المهنة لا يسمون باسم قلافين إلا في منطقة الخليج العربي وخليج عمان فقط.
هناك فرضية أخرى تتحدث عن كيفية مجيء اسم القلافة بالتحديد، فربما الأمر يرجع إلى صناعة السفن الخشبية في القدم، ومن ثم تغليف هيكلها بمادة ما، كما فعل سيدنا نوح عليه السلام عندما بنى سفينته. فيمكن أن تكون قد اشتقت كلمة قلافة من التغليف، ولكن في النهاية ما زالت هناك أزمة بين أبناء القلاليف القدامى والمحدثين حول التسمية فيرى البعض أنها بالقاف «قلافة» وبعضهم يرى أنها بالغين «غلافة».
القلافة وخطوات صناعة السفن
يبدأ عمل القلافين عندما يتلقون أوامر من المراقب أو المشرف على تصميم السفينة، حيث يتم توفير المواد الخام، التي تختلف نوعيتها باختلاف نوع السفية وطريقة تصميمها، حيث يبدأ القلافون بوضع القاعدة الأمامية في البداية ومن ثمّ وضع القاعدة الخلفية، وقتها يأتي دور الألواح الجانبية ثم أضلاع السفينة الداخلية بعدها يتم تنفيد السطح وإكمال الجوانب.
عندما ينتهي عمل القلافين في السفينة تبدأ أعمال التشطيبات النهائية، التي في الأغلب تأخذ وقتا طويلا لإنهائها. وهناك خطوة أخرى بعد الانتهاء من التشطيبات وهي وضع الأشرعة، وكانت تُصنع تلك الأشرعة من أحد أنواع النسيج والذي يسمى الغزل، وبعدها يقوم مختصون بتقوية حوافه بالحبال السميكة، وخياطة جميع حواف الشراع جيدًا من أجل الإبقاء على تماسكه عن طريق الإبرة المخصصة لهذا الأمر.
قصر خزام .. الشاهد التاريخي على الاتفاقيات والمعاهدات التي بدّلت ملامح المملكة
طلاء السفينة بالزيت يأتي قبل إنزالها في المياه مباشرة، حيث يمكن للطلاء حمايتها من التلف وإعطاؤها لمعان أكثر، وبعد أن يتم الانتهاء من طلائها يمكن إنزالها في الماء. كل تلك الخطوات يلزم تنفيذها لتصنيع السفن أيّاً كان نوعها، ولكن وقت إنجاز السفينة يختلف بحسب نوعها ومواصفاتها، وأيضاً يختلف باختلاف حجم السفينة وعدد القلافين العاملين علي بنائها.
أنواع السفن في السعودية
السفن الشراعية: من أشهر السفن التىي تتم صناعتها في المملكة العربية السعودية، وتتميز تلك السفن بأنها كبيرة الحجم للغاية، فهي تتكون من دورين، ويتم إعدادها لأغراض السفر، وتشتهر مدينة جدة بأنها تُصنّع تلك السفن التي لها أشرعة ومجاديف، ولعل صناعة أشرعة السفن في المملكة يُطلق عليها «تفصال شرعه» والتي تتعلق بتفصيل أشرعة السفن التقليدية ومن ثم خياطتها، ويجب أن يكون مصمم الأشرعة ماهرا ودقيقا حيث يتعلق الأمر بحسابات للأطوال ومعايير دقيقة تخص سلامة السفينة.
سفن الهوري: تعتبر سفن الهوري التي كانت تُصنع في المملكة مخصصة من أجل الصيد وخاصة الذي يكون بالقرب من الساحل، وذلك لأن هناك بعض السفن الأخرى المخصصة للصيد البعيد عن الساحل.
سفن الجروي: بناة تلك السفن يقسمونها إلى العديد من الخانات وذلك لتخزين المؤن، وذلك كونها تتكون من دور واحد فقط، ويتم إعداد تلك السفن خصيصًا للصيد ولكن في أماكن بعيدة عن الساحل وليست تلك القريبة.
هل انتهت القلافة؟
المناطق الساحلية في المملكة العربية السعودية، اشتهرت بصناعة السفن الخشبية وصيانتها، وأخذت تلك المهنة الكثير من الاهتمام والشهرة بالمنطقة بأكملها، حيث اشتهرت الكثير من العائلات في مدينة تبوك بصناعة السفن، وعلى الرغم من مرور سنوات طوال على هذه الصناعة، وتقديم العديد من التقنيات الحديثة فإنه ما زال بعض الأشخاص متمسكين بمهنة القلافة.
الدليل الأقوى على ذلك هو ما شهده مهرجان الجنادرية 31 من عرض لمهارات أحد السعوديين الذي يُدعى عبدالعزيز حلواني، وهو رجل ستيني يعمل في القلافة، واللافت في ذلك أن معظم زوار الجناح الذي كان يعرض فيه حلواني مهاراته توقفوا أمامه، أثناء رسمه لوحة على الخشب، وصناعة القوارب، وبينما كان يستعرض مهاراته كان يروي للزوار العديد من القصص القديمة حول صناعة السفن.
ويقول الرجل الستيني إن السفن قديمًا كانت تُصنع من أغصان الأشجار وجذوعها، وكان ذلك هو أساس صناعة القوارب البدائية التي كان يستخدمها البشر في عبور البحر، ومن ثم تطوّر الأمر لاستخدام الألواح وبعدها التجويف إلى أن تم التوصل إلى السفينة، حلواني بدأ عمله في سن صغيرة، حيث كان يعمل صيادًا إلى جوار والده ووجد نفسه ينجذب إلى مهنة صناعة القوارب التى كان يعمل بها أبناء عمومته، ليترك والده ويعمل معهم.