صديقتي ايزابيل
سلمان الدوسري
"ما أجمل أيامي.. إنها الأفضل طوال حياتي"، هكذا ردت السيدة البريطانية ايزابيل على سؤالي عن أفضل مراحل عمرها. هذه السيدة التي رحلت والدتها بعد يومين من ولادتها، وطُردت من منزلها في اليوم الآخر لرحيل زوجها، تقول هذا الكلام، وهي تحتفل في الثالث من يونيو الجاري بعيد ميلادها الثامن والثمانين. تخرج يومياً لتمارس عملها؛ يوماً للعمل الخيري، وآخر للتواصل مع أسرتها، وثالثاً لمساعدة الجيران، ورابعاً لتشرب القهوة مع صديقاتها في مقهى في قريتها الصغيرة. وهكذا لا يكاد يمرّ يوم لاتمارس فيه عملاً تشعر من خلاله أنها مازالت تتنفّس وعلى قيد الحياة.
ايزابيل لم تتوقف سعادتها يوماً طوال حياتها، بالرغم من كل المآسي التي عاشتها وتعيشها، وتؤكّد أن يومها، دائماً، أجمل من أمسها، وأن غدها سيكون أفضل من يومها.
ما أن دلفتُ إلى منزل ايزابيل، حتى لفتتني أناقته ونظافته. كل قطعة تستحق الموقع الذي تأخذه. دخلت ايزابيل التي تعيش وحدَها ولايساعدها أحد في تنظيف المنزل، المطبخ بعد أن سألتني عن مشروبي المفضّل، أعدت الشاي الانجليزي، قدمته بكل رشاقة وهي تمسك باليد الأخرى صحن بسكويت، ثم عادت من جديد لتقدم صحناً آخر من الكعك، وما أن بدأت الحديث حتى قامت من كرسيّها لتطلّ على فنجان الشاي الخاص بي وتسألني: هل أقدم لك كوباً آخر؟ لكني أجبتها بسؤال: هل أنت متأكدة أنك في الثامنة والثمانين؟ رمتني بنظرة عتب وقالت: لاتذكّرني بعمري رجاء، فأنا أعيش أفضل أيامي.
في بلادنا القوانين هي من يحكم علينا بالموت والحياة، لأن النظام يحيل الموظف إلى التقاعد في الستين من عمره، أو نحوها، فيتحوّل بشكل تفاعلي وصولاً للشعور بأنه حقيقة دخل مرحلة الشيخوخة، ليبدأ هو ذاته الابتعاد عن حياته الحقيقية، ويصنع حوله حياة جديدة متوهّماً أنه عجوز. ذات يوم قابلت سيدة انجليزية عجوزاً في المترو، وكانت تحمل ثلاثة أكياس، فضلاً عن حقيبة يدها، ولأن القطار كان مكتظاً بالركاب، قمت من مقعدي طالباً منها الجلوس، ابتسمت وقالت بأدب: سأنزل بعد محطتين، لا داعي للجلوس. غنيّ عن القول أنني خجلت من نفسي وبقيت واقفاً.
لا يموت الإنسان إذا اختار له خالقه كذلك فقط؛ يموت قبل ذلك بوقت طويل، عندما يختار البقاء عازفاً عن أي عمل ينفع به ذاته ومجتمعه. المجتمع نفسه يرسّخ نظرية حصر العمل بالوظيفة، وأن من يتقاعد يصبح عجوزاً ينتظر يومه المحتوم. قد يتأخر القضاء والقدر لعقود، إلا أن قضاء المجتمع وقدره حاضران، وما يزيد الطين بلة أننا نفهم البرّ بالوالدين بشكل خطأ في كثير من الأحيان، فنقوم بمعظم الأعمال التي ربما لو فعلوها بأنفسهم، لكان أنفع لهم.
قلت لـ ايزابيل: سجادة الصالون جميلة، ضحكت وقالت: للتوّ اشتريتها عن طريق الإنترنت. أجبتها: أوَتستخدمين الإنترنت؟ قالت: من لا يستخدم الإنترنت ياصديقي لا يستحق الحياة. ليتني صديقك يا ايزابيل لأتعلم منك كيف تعيشين أحلى لحظات حياتك، وأنت في العقد التاسع. شكراً لك، حكمتك لا قبلها ولا بعدها.