لم ينجح أحد
سلمان الدوسري
حضرت محاضرة لغوردن براون رئيس وزراء بريطانيا السابق، في مدينة غلاسكو الاسكتلندية، تحدث خلالها عن قضية الساعة في بريطانيا، وهي الاستفتاء المقبل، لتحديد استقلال اسكتلندا عن المملكة البريطانية، لن أفصّل ما قاله ومحتوى محاضرته وقوتها، غير أن ماكان لافتاً وبارعاً ومميّزاً من الدكتور براون، تحدثه طوال خمس وأربعين دقيقة متواصلة، متسلحاً بالمعلومة والتحليل والفكرة غير المكررة، والربط بين محاور مختلفة، كل هذا دون أن يتوقف ولو لثلاث ثوان. تخيّلوا كل هذا يحدث دون أن يحمل ورقة في يده، ولا لوحة معلومات أمامه، أو شاشة كمبيوتر تساعده؛ لذا لم يكن غريباً أن الحضور كانوا متشوّقين أن يبقى السيد براون لخمس وأربعين دقيقة أخرى.
في المقابل لدينا من الأمثلة ماليس له مثيل. وزير يتحدث ويكرر ماقاله العام الماضي والذي قبله والذي قبل قبله، لم يهمس في أذنه محب: احذر لم تضف جديداً. مسؤول يصرّح ويزبد ويرعد وينفي ويؤكد، وهو على أرض الواقع لم يقل جملة مفيدة. خبير استراتيجي يسبقه حرف الدال يحلل وينظر عبر الفضائيات في الأسبوع ثلاث مرات، ولم يستفد منه مشاهد واحد. مذيع يرغي كثيراً ويتحدث أكثر من ضيوفه، وكأنه هو الضيف لا المضيف. كل هؤلاء مستمرون في نهجهم وتحديهم للمنطق. كل هؤلاء يعتقدون صدقاً أن حديثهم لا يملّ وأسلوبهم هو الأفضل والأكثر جاذبية. كل هؤلاء يخالفون منطق الحديث والاستماع. كل هؤلاء ينطبق عليهم ماقاله الفنان سعيد صالح في المسرحية الرائعة "مدرسة المشاغبين" عندما خاطبهم بجهلهم للمنطق: " يا متعلمين يابتوع المدارس".
ما أكثر المؤتمرات حينما تعدّها لكن في الفوائد شبه معدومة، إلى أن تحوّلت تجارةً رائجةً ومربحة. ربما أهم أسباب عدم نجاح المؤتمرات والندوات واللقاءات، في ظنّي، هو تشبّع الحضور من الأسلوب الموحّد للمحاضرين، وعدم وجود ما يغري للحضور والاستماع، ناهيك بالإنصات . أذكر مرة في أحد المؤتمرات الكبرى في دبي، سألت مشاركاً في جلسة رئيسة قبل أن تبدأ: هل لي بنسخة من الورقة التي ستقدمها؟ فأجاب بثقة لا متناهية: لا ورقة لديّ. أنا أتحدث من بنات أفكاري. الحقيقة المرة أن ورقته كانت في غاية الملل، خرج الجميع من القاعة، ليبقى هو وبنات أفكاره وحدهم. ما أبشع الغرور!
قد يكون صديقنا الكاتب في هذه المجلة الدكتور محمد النغيمش أكثر المتخصّصين في هذا المجال، وله الكثير من المقالات عبر زاويته "أنصت يحبّك الناس". مشكلة النغيمش العويصة علمه أن معظم الناس هنا لا يحبّون الإنصات. يحبون الحديث أكثر حتى لو لم ينصت لهم أحد. حتى لو لم يستمع لهم أحد. وبالطبع حتى لو لم ينبهر بحديثهم أحد. المهم أن يعبّروا عمّافي دواخلهم. المهم أن يسرقوا أكبر حيّز من الكلام المتاح لغيرهم، ليس من المستغرب أن تدخل مجلساً وتجد الجميع يتحدثون وبحدة؛ إذن من يستمع؟ بالتأكيد الإجابة: لم ينجح أحد.