بركة التي علمتني
سلمان الدوسري*
في اليوم الأول لتسلّمها وظيفتها، بعد تخرجها في الجامعة، أبلغت بضرورة مراجعة المستشفى. ذهلت وقلقت وتوترت: ما الأمر؟ قال لها الفريق الطبّي: نأسف.. السرطان ينهش عظام صدرك. ستعيشين ١٢ شهراً على الأكثر. ابتسمت والتفتت إلى والدها بعد أن رأت دمعة في عينيه: أرجوك لا تحزن؛ عشت ٢٢ عاماً، وكنت سعيدة وغيري رحلوا وهم أطفال. درستُ في أفضل المدارس، وتخرجتُ في أفضل الجامعات، وتربّيتُ أفضل تربية؛ هذه السعادة تكفيني وتزيد. ثم قالت ضاحكة: لا تنسَ يا أبي، أمامي ١٢ شهراً أخرى أسعدُ بها أيضاً.
مرت ١٢ شهراً على حديث الأطباء للفتاة البريطانية بركة، زرتها في المستشفى، بعد أن علمت أن وضعها الصحّي تدهور. كانت المرة الأولى التي ألتقيها. دخلت غرفتها، وهي تضع الأوكسجين ليساعدها على التنفّس. ابتسمت وقالت بالإنجليزية: Welcome uncell Salman ، أخيراً زرتني. خجلت ولم أجد إجابة تبرر تقصيري. سألتها عن حالتها، وجدتها تقول: من منا يضمن حياته؟ من لم يمت بالمرض مات بغيره. الله وحده يملك آجالنا ومصيرنا. بعد ٢٠ دقيقة من حديثنا ودعتها وغادرت. قلت لوالدها: هل أنت متأكد أن ابنتك، كما تقول، في أيامها الأخيرة؟ حيوية وتفاؤل وابتسامة ونشاط لم أرَ مثلها في حياتي. أجاب: ربما لا تصدق أنها هي من تعيننا على تحمّل مصيبتنا. لم تحزن يوماً أو تدمع عيناها على ما أصابها. غادرت وأنا أسأل: أي فتاة هذه تملك كل مفاتيح العزيمة والصبر؟!
يحزن الإنسان على توافهَ معتقداً أنها مصائبُ، فإذا أتت المصيبة الحقيقية، علم أنه أضاع وقته في حزن بلا طائل. أغلبية أحزاننا السابقة نكتشف، بعد حين، أنها لم تكن تستحق دقيقة حزن، فما بالك بمن قضى لياليَ وأياماً لا يغيب الحزن عن قلبه. الحزن في حقيقته عادة وليس معاناة، إمّا أن يعتاد عليه الإنسان، فيحزن لأقل القليل دون شعور منه أو رغبة، وإمّا أن يضعه في حدوده الطبيعية، فلا يجعله يسيّر حياته دون وعي منه أو إدراك. ذات مرة قالت لي أمي شيخة، رحمها الله، الحزن لا يردّ حبيباً.
ما أن اكتشفت بركة اصابتها بالمرض، حتى عملت فوراً على مشروع خيريّ اجتماعيّ في كبرى جامعات بريطانيا "كامبردج". لم تهتمّ لمرضها قدر اهتمامها لإكمال مشروعها الحلم. جندت أصدقاءها وعائلتها ومجتمعها من حولها، غدا كأنه مشروعهم جميعاً، تتمنّى أن يأتيها خبر اكتماله قبل أن يأتيها خبرٌ سيّئٌ آخرُ. وتضيف وهي تتحدث بحماسة: حتى لو رحلت قريباً، فمشروعي سيبقى شاهداً على أنّني لم أستسلم في رحلتي القصيرة في هذه الدنيا.
ما الذي يجعل فتاة في الثالثة والعشرين من عمرها، تعيش بهذا النضج الفكريّ الذي لا يعرفه معظم من حولنا؟ ما السرّ خلف هذه القوة والإيمان اللذين يجعلان بركة لا تخشى الموت، وهي تراه ماثلاً أمامها؟ كيف لا تنهار فتاة صغيرة في السنّ لهذه المصيبة، في حين نجد من ينهار لتوافهَ لا معنى لها؟ أصدقكم القول لم أعرف السرّ سوى أن الله وهبها هذه القوة، لكي يتعلم مَنْ حولها ومَنْ يعرفها قيمة هذه القوة العجيبة في تحمّل أكبر مصيبة قد تحلّ على الإنسان.
لو قدر الله ورحلت بركة، فسترحل، لكن بركتها ستبقى حاضرة ولن ترحل معها. لم تستسلم بركة للمرض. هو من استستلم لها.
رئيس تحرير صحيفة الشرق الاوسط و مجلة الرجل