زياد فارسي "بائع البسطة" الذي تربع على عرش المجوهرات.
خميس السعدي- جدة:
استلهم التصميم على النجاح، وسخّر طاقته لتقديم أقصى ما لديه من أطهر بقاع الأرض، فقد قيّض الله له أن يولد في "مكة" العاصمة المقدسة لعموم المسلمين ومهوى أفئدتهم، إذ جبلت أسرته – كماأهل مكة المكرّمة - منذ أن أقام إسماعيل عليه السلام قواعد البيت العتيق على خدمة العاكفين الركّع السجود، التي تفرض تقديم خدمة ضيوف الرحمن على أعلى مستوى نيلاً للمثوبة قبل العائد المادي. بدأ زياد بن محمد جمال فارسي الذي انتُخب أخيراً للمرة الثانية على التوالي نائباً لرئيس الغرفة التجارية الصناعية في مكة المكرّمة، إلى جوار لقب نائب شيخ الجواهرجية في العاصمة المقدسة، حياته العملية منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، فقد دفع به والده نحو المجال العملي ليصقل مهارته التجارية منذ سني حياته المبكرة، جنباً إلى جنب مع دراسته، فبدأ بائعاً في متجر متحرك "بسطة" في موسم الحج، مستغلاً العطلة المدرسية كمعظم أترابه من صبية مكة المكرّمة وشبابها. خاض في هذه التجربة الكثير وتعلم كسر المستحيل، يقول زياد لـ "الرجل" إن والده وعمه كانا يريانه مدبراً جيداً للمال، وذا دراية بضبط المصاريف وإدارة الأموال.. ربما كانت هذه البدايات للتأسيس القوي المتين لاتجاهات فارسي الحالية، إذ صنع اسماً تجارياً لا يمكن تجاوزه في مكة المكرّمة، فهو نائب شيخ الجواهرجية، رئيس مجلس إدارة شركة "قوافل للنقل" التي يراها الجميع أنها تخصّصت في حصد الجوائز وباتت منافساً قوياً عتيداً يصعب تجاوزه وكسره. خبير المجوهرات لم يكتف والده باستقطابه للعمل في مجال العائلة الأساسي، وهو مجال المجوهرات، فقد كان جده ووالده وعمه خبراء في هذا المجال، حيث أرسله والده لدراسة دبلوم متخصّص في علم المجوهرات والأحجار الكريمة، بعد أن أكمل الماجستير في إدارة الأعمال في الولايات المتحدة الأميركية، وقبلها بكالوريوس إدارة الأعمال من جامعة الملك عبد العزيز في جدة.
ويتحدث فارسي عن دراسته بقوله: اختار والدي، وهو معلمي الأول بشكل أساسي، وأستاذي وملهمي في كل ما أنجزت في حياتي العملية والمهنية، أن أدرس لنيل دبلوم متخصّص في المجال الذي تعمل فيه العائلة، وجاء اختياره للمعهد الأميركي للمجوهرات والأحجار الكريمة GIA الذي تعادل شهادته وهي "دبلوم" درجة الماجستير، وكان يدرس علماً جديداً لم يكن معروفاً وهو علم "الجيمولوجي"، ويلمّ الدارس بتفاصيل دقيقة عن المجوهرات واللؤلؤ وبقية الأحجار الكريمة، ليتخرج عالماً بعمليات فحص الأحجار الكريمة، ومعرفة جودتها والفرق بين أكثر من أربعة آلاف حجر كريم، ويمنح بموجب ذلك شهادات معتمدة. وتخلّى الطالب المتخرج بتفوق من المعهد عن حلمه بأن يصبح معيداً في المعهد الأميركي للمجوهرات والأحجار الكريمة، تلبية لنداء عائلته التي آثرت أن يأتي ليعينها في أعمالها بعد إكمال الدراسة، إذ كان أحرز المرتبة الأولى بين زملائه الدارسين في كورس الألماس، الذي كان من الطبيعي استيعابه معيداً في المعهد لتدريس الطلاب الجدد. ويشير نائب شيخ جواهرجية مكة المكرّمة بقوله "تجارتنا في هذا القطاع عائلية، ونحن الجيل الثالث في هذا العمل الذي دخلته بشكل جاد وعمري 24 سنة، فقد أمضيت الآن نحو 23 عاماً في هذا القطاع، نحن كعائله نعمل في هذه المهنة منذ أكثر من 107 أعوام، ولا نعدّ أنفسنا تجاراً، ولكننا نفتخر بأننا جواهرجية، فالجواهرجي هو عاشق المهنة التي تسري في جسده، كما تسري الدماء في العروق".
الدراسة في الخارج والاحتكاك بأنماط مختلفة من البشر، إلى جانب وجوده في مكة المكرمة، حيث يأتي ضيوف الرحمن من كل بقاع العالم، دفعت بالفارسي لإنتاج مزيج من المجوهرات والأحجار الكريمة التي تمثل معظم الشعوب، لتقدم لهم من أطهر بقاع الأرض، فظهرت خطوط إنتاج جديدة وغريبة على السوق المحلي نالت استحسان العملاء. يقول عن ذلك: افتخر بأني بعد حضوري من الدراسة في الخارج أدخلت خطوط إنتاج جديدة ومبتكرة على السوق المحلي بمساعدة ابن عمي الذي كان يمثل المدرسة القديمة، وكنت أمثل مدرسة جديدة، فأدخلنا تصاميم حديثة في السوق في تلك الفترة وكان لها نجاح كبير وإقبال منقطع النظير من العملاء، ورغم ذلك وجدت تحفظاً من والدي وعمي على التجديد في التصاميم، حيث إنهما يحرصان على أصالة العمل. ويواصل زياد: "كنت من القلائل الذين يمتلكون معملاً في محله، فالمعامل لم تكن موجودة بكثرة في تلك الفترة في السعودية، وكنت من خلال معملي الصغير أقوم بالكشف عن الأحجار الكريمة، وكان كل من يدرس في ذلك المعهد الأميركي يستجلب معه معدات الكشف، ولكن عموماً كان عددنا قليلاً، ولكن مع الزمن تزايد العدد". ويوضّح أنه رغم تخصّصه في الصنعة ودراسته التصميم، فإنه اتخذ تصميم المجوهرات من باب الهواية، يقوم برسم الأفكار والنماذج التي تراوده على الورق ثم يحيلها للتنفيذ، ولأن الأسفار تمنح المزيد من الأفكار، فإنه يمارس هواية السفر للتعرف إلى مختلف الحضارات حول العالم، ويتوّج رحلاته في مجال التصميم، وفي هذا الصدد يقول فارسي"نحن في مكة نتعامل مع عملاء من مختلف أنحاء العالم، لذا لابدّ أن تكون الموديلات الموجودة من المجوهرات خليطاً من الطقوس الهندية والمغربية ومن شرقي آسيا وأوروبا، فمنتجاتنا تعطي كل جنسيات العالم أذواقها".
من بين المواقف الكثيرة التي لا ينساها زياد فارسي يتذكر موقف والده الضاغط لإكمال دراسة دبلوم المجوهرات بقوله "موقف لا أنساه؛ ففي أميركا كانت الدراسة في أول أسبوعين صعبة جداً، مع الضغط والمواد الكثيفة، وهو ضغط لم أعتده من قبل، فحاولت الاستعانة بمدرسين خصوصيين كانوا قد تخرجوا في المعهد، ولكن رغم ذلك كانت الفترة صعبة جداً، وفي يوم أخبرت والدي باني أريد أن اكتفي من العلم وأن اعمل بشهادة الماجستير، ولا أرغب في مواصلة الدراسة في المعهد، فكانت كلمته الوحيدة التي قالها، إنه يمكنني أن أعمل في أي مكان أريد بشهادة الماجستير، إلا أن أعمل معه، قادني هذا للدخول في تحدٍّ مع نفسي، وأصبحت اعتمد على نفسي بدون الاستعانة بالمدرسين، حيث زادت معدلات دراستي اليومية واستذكاري إلى ما بين 8 إلى 10 ساعات في اليوم، كان نتيجتها أن تخرجت بتفوق، وأنا افتخر بأني كنت من الأوائل، وأحرزت المركز الأول في كورس الألماس، وجملة والدي كانت المراقب والحافز الحقيقي لي". الاستثمار في النقل إلى جانب نصائح والده، كان هناك كثير من العوامل الأخرى، مكنته من ارتقاء عوامل النجاح، ارتكزت بشكل أساسي على الحفاظ على سمعة والده التجارية. فيما كان الامتياز الإضافي الذي حظي به زياد، هو قربه من مجالات العمل المختلفة، ورغبته في تحقيق النجاح في أي قطاع كان، ممّا دفعه للاتجاه إلى قطاع جديد تمثل في قطاع النقل. وجاءت فكرة الاستثمار الأساسية في قطاع النقل، من الإيمان بضرورة الانخراط في خدمة ضيوف الرحمن، كدأب بقية أهل مكة المكرمة، نشأ وترعرع بين أناس يتسابقون لخدمة الحجّاج مطوفين أو عبر أعمال الخدمات المختلفة التي كان مرتبطاً بها، ورأى كيف أن هناك أناساً يعملون من باب الأجر والمثوبة من الله، لخدمتهم في هذا العمل الخيّر. يشير بقوله "كانت من أحلامي القديمة التي سعيت لتحقيقها، أن يكون لي علاقة مباشرة بأعمال الحج، ولم يكن متاحاً لي العمل مطوفاً، فكان النقل خدمة لضيوف الرحمن، فكنت أسعى كأحد أبناء مكة لخدمة حجّاج بيت الله الحرام، عبر النزول إلى الميدان والاحتكاك مباشرة بالحجّاج". وأشار إلى أن فكرة إنشاء شركة النقل ودراساتها، كانت بتوفيق من الله، ثم بتوفيق الشركاء الذين كانوا مشاركين بالمال فقط، وقال: بفضل الله اكتسبت الخبرة بممارسة العمل، وعلى الرغم من بداياتنا المتأخرة في هذا القطاع، حيث بدأنا في عام 2005، فإن شركتنا للنقل استطاعت بحمد الله على مدى ثلاث سنوات متصلة، تحقيق المركز الأول في تقييم وزارة الحج والنقابة العامة للسيارات. وقال: عند تأسيسنا شركة النقل لم تكن لديّ فكرة عن قطاع النقل، كنت رئيس مجلس إدارة الشركة، وكان هناك مديرون، بينهم التنفيذي ومدير التشغيل هم بدأوا بمباشرة العمل، ولم أكن بصفتي رئيس مجلس إدارة أتدخل في العمل التشغيلي بشكل مباشر، لأنه كانت تنقصني الخبرة، ولكني كنت أتعلم، وظللت أول ثلاث أو أربع سنوات أتعلم، وأستفيد من الخبرات الموجودة حتى وصلت إلى مرحلة تحوّلت فيها إلى مدير تنفيذي مباشر، وليس رئيس مجلس إدارة فقط، لذلك كانت الشركة في فترة من الفترات تعاني من بعض الصعوبات التشغيلية، لكن بفضل الله سبحانه وتعالى، وبفضل مجهود بعض الإخوة في مجلس الإدارة، اتخذت قراراً رأيته تحدياً بالدخول في الأعمال التشغيلية مباشرة، وأن أتحول إلى مدير تنفيذي عملياً وهو أحد القرارات المهمة في حياتي. ويشير إلى أن أول سنة من بداية العمل في شركة النقل كانت صعبة جداً، وفي السنوات الأولى كانت الشركة تحقق المركز العاشر من بين 15 شركة في التقييم السنوي. ويبين "من طبيعتي في عملي وفي أعمالي التطوعية أيضاً، أن أنجز في العمل، أي ألا يكون عملي تقليدياً، فلابدّ من الإنجاز، ولا أذيع سراً إذا قلت إنني عملت للفوز بالمركز الأول بين شركات النقل منذ انطلاق العمل، فمكاني ليس العاشر بل الأول". مشروع تحد جديد وللوصول إلى المستويات المرضية من النجاح يقول زياد فارسي "أجريت تغييراً في العمل بشكل أساسي، فكانت الفكرة الأساسية أن نكون متميزين في العمل وتقديم خدمات غير تقليدية، فنحن لسنا كباقي الشركات، وحتى أكون متميزاً في تقديم خدمة لضيوف الرحمن، بما يتناسب مع مكانة الكعبة المشرّفة، فكنا نستمد العظمة من المكان الذي نخدم الناس فيه بنوع غير تقليدي من الخدمة، فحالياً 70 في المئة من أسطولي مخصص للشخصيات المهمة، حيث نقدم خدمات عالية المستوى". قبل أربع سنوات، عندما كان يشاهد جائزة مكة للتميّز، كان يحلم بأن تكون شركته إحدى الشركات الفائزة، ولكن بعد فوزه بثلاث جوائز في مكة، أصبح الحلم أقرب ما يكون من التحقق – بحسب وصفه - وذلك بفضل الخدمات التي تتطور في نوعيتها يوماً بعد آخر. ومازال الطموح يتولد، فبعد تحقيق كل حلم يولد حل آخر جديد، طموح مستمر لا حدود له، وأساسه تقديم الأفضل في كل عمل يقدمه.. ويهمس فارسي بسرّ "خلال الأيام المقبلة سأطلق مشروعاً صناعياً كان احد أهم أحلامي، مشروع صناعي يستهدف خدمة حجّاج بيت الله الحرام ومعتمريه، حركه دفعاً للأمام دراسة ابني للهندسة الصناعية في الولايات المتحدة، ورؤيتي أن الصناعة هي الأساس المقوي لأي اقتصاد، لذلك سأطلق أولى خطواته قريباً، وهو تحد جديد لنفسي، كما يأتي استشعاراً للمسؤولية كوني ابناً من أبناء مكة وعظمة مكة، ورغبة في تحقيق خدمة صناعة مميّزة.